قمم جامعة الدول العربية بين الواقع والتمثيل
منذ أنهت القمّة العربية الحادية والثلاثون أعمالها في الجزائر تحت عنوان "لمّ الشمل"، وسماع بيانها الختامي، وأنا مسكونة بالصمت حدّ الخرس، مثل أي مواطن ينتمي إلى هذه البقعة الجغرافية، التي تشكل ثاني أكبر مساحة في العالم، ورابع مرتبة من حيث تعداد السكان "حوالي 350 مليون فرد".
وعلى هَدْي المثل "شرّ البليّة ما يُضحك"، ضحكتُ، إنما لم يكن ضحكي يشبه الضحك الذي فيه غذاء للروح، وصحّة للجسم، بل ضحك يصحّ فيه المثل" كالطير يرقص مذبوحًا من الألم". وقفزت إلى وعيي حلقة من مسلسل بقعة ضوء السوري، تحت عنوان "العملة العربية الموحّدة"، ينعقد فيها مؤتمر قمّة عربي من أجل نقاش هذه الفكرة الواعدة، عملة عربية موحّدة، في أداء تمثيلي كوميدي بديع لفنانين سوريين مبدعين، تميط الحلقة اللثام عن واقع الحال العربي الذي لم يتغيّر، أو لم يتطوّر نحو الأفضل منذ الاجتماع الأول لـ "قادة" العرب في مؤتمر قمّة، إذ يظهر واقع الحال رجحان كفّة الخلافات بشكلٍ يدعو إلى اليأس، على المشتركات كافة، مهما تجمّل الواقع، خصوصا في عصر الإنترنت والميديا المتعدّدة، ومهما حاول الإعلام والديبلوماسية إعطاء صورة مشرقةٍ عن هذه الأنشطة والأعمال، والدليل الأكبر مدى اليأس على مستوى الشارع العربي في مختلف مناطقه الجغرافية، من إمكانية أن تقدم هذه المؤتمرات أو اللقاءات على مستوى القمم للدول العربية، من طروحاتٍ قابلة للتنفيذ، مهما حملت من وعود وخطابات واعدة وبرّاقة.
المواطن العربي بائس ويائس في غالبية هذا الوطن مترامي الأطراف، وإنْ كان قد عاش فترة محدودة، تكاد لا تعادل أكثر من فاصلة بين جملتين لمتحدّث حديثه طويل، يحلم بمستقبل تتحقق فيه أمنياته وطموحاته، قياسًا بالفترة منذ "الاستقلالات" المتتابعة للدول العربية التي كانت تحت الاحتلال في القرن الماضي. ولقد عاشت فكرة العروبة والقومية العربية في وجدانه على مدى نهضته التي كانت "تحبو"، ولم تتقدّم بعدها نحو الانتصاب على قدمين والسير في ركب الحضارة الإنسانية، بل أجهضت آماله وأحلامه، ليس فقط منذ نكسة حزيران 1967، بل قبلها منذ النكبة، وقبلها منذ إعلان بلفور وعده في 1917، بدعم تأسيس "وطن قومي للشعب اليهودي"، ومنذ أن صارت فلسطين في قلب هموم الأنظمة العربية واهتماماتها، كما تشدّد كل القمم المنعقدة، منذ بروتوكل الإسكندرية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1945، الذي نصّ على "اعتبار فلسطين ركنّا هامًا من أركان البلاد العربية، وحقوق العرب فيها لا يمكن المساس بها من غير إضرار بالسلم والاستقلال في العالم العربي، ويجب على الدول العربية تأييد قضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة".
شريحة واسعة من الشعوب العربية تصدّق أقوال زعمائها، وتنتظر وعودهم مهما تأخّرت
لماذا اليأس من مخرجات أي قمّةٍ عربية؟ ولماذا عدم الاكتراث من غالبية القاعدة الشعبية لهذا الوطن الكبير الذي تشكّلت جامعته من أجل قضاياه، ومن أجل رسم خطط مستقبلية لها، والسعي إلى إنجازها، بمؤتمرات القمّة؟ ولماذا كانت حلقة "بقعة ضوء" مؤثّرة أكثر من كل اجتماعات الزعماء والقادة في مؤتمراتهم؟ في الواقع، كانت هذه الحلقة التمثيلية صورة كاريكاتورية لواقع أسود، لكنها على الأقل جعلتنا نضحك علنًا، ما منحنا ومضةً من المشاعر الصحيّة، وجعلتنا نبكي، والبكاء أيضًا حالة صحيّة بما يقرّب صاحبه من عمق وجعه، وهذا إيجابي في أحد جوانبه، وليس كما يقال دائمًا إن الأعمال من هذا القبيل ليست أكثر من وسيلة تنفيسٍ عمّا يختلج في الصدور، وتقمعه الأنظمة المستبدّة في محاولة الخروج والإفصاح عن نفسه، إذ لا بدّ أنه ما زال هناك شريحة واسعة من هذه الشعوب تصدّق أقوال زعمائها، وتنتظر وعودهم مهما تأخّرت، مقتنعة ومؤمنة بأن أسباب فشل هذه الأنظمة في إنقاذ دولهم التي تغرق بلججها وتنهار أركانها، تعود إلى المؤامرة المحاكة بخبثٍ وقوةٍ من العالم مجتمعًا، بل إنها "مؤامرة كونية". لذلك هم يتلقون أقوال زعمائهم كما لو أنها وعود أكيدة، أعمال من هذا القبيل في رأيي تفتح ثغرةً في العقول المحجوبة، وتنير ظلامها بعض الشيء، فهي بمثابة مرآة للنفس، لشعوبٍ حُطّمت مراياها، وصارت بمجموعها نموذجا وحيدا مكرّرا على ملايين النسخ، لا مجال للاختلاف في ما بينها، هكذا تُعدّها الأنظمة، نسخًا متطابقة، كوادر للمستقبل الذي تعرف، تلك الأنظمة، أنها لا بدّ واصلة إليه.
بنظرة سريعة على واقع الحال في قمّة الجزائر، سوف نرى الخلاف المتأصل والشقاق بين "الأشقاء"، على عكس عنوانها الواعد "لمّ الشمل"، لأن لمّ الشمل يعني فسح المجال للأشقاء وأبناء الأسر الواحدة، بأن يلتقوا بعد تذليل العقبات أمامهم، العقبات الخارجة عن إرادتهم، وليست شقاقات وخلافات في ما بينهم. لمّ الشمل فيه جمع للمتلهفين إلى اللقاء والاجتماع، فيه مستوى من العاطفة والمحبّة والمشاعر الجميلة، وليس للخلافات والكيديات، فيه وعد للعمل المستقبلي والمضي في دروب المستقبل، بينما كثرت في القمّة العربية الخلافات، كما في "بقعة ضوء". وزيادة على ذلك، مداخلات القادة كانت في عديد منها شكوى مديدة عن أحوال بلدانهم، وطلب المساعدة "الواجبة" من "أشقائهم"، وهذا بديهي، لو تمعّنا في واقع هذه الدول، من سورية إلى لبنان فالعراق فاليمن فالصومال، فليبيا، فالسودان وتونس، "والحبل على الجرّار".
تتصارع القوى الكبرى، تنهار اقتصادات وتتغوّل أخرى، وتبقى قضية فلسطين حاضرةً على "موائد" القادة والزعماء
تُعدُ دول الجامعة العربية غنيةً بالموارد، ففيها مواردُ هائلةٌ من النفط والغاز الطبيعي، كما تتمتع أراضيها بخصوبةٍ كبيرةٍ في السودان، مثلاً، ما جعل هذا البلد يُسمى "سلة غذاء العالم العربي". وهناك قطاع السياحة الذي يعدُ أكثر القطاعات نموًا في دول المنطقة، سيما في السعودية ومصر والإمارات والمغرب وتونس والأردن، لكن هذا لا يغيّر شيئًا في الواقع. وماذا عن اللجان الدائمة المنبثقة من الجامعة؟ كاللجنة السياسية، والاقتصادية والمالية واللجنة الثقافية واللجنة القانونية، والاجتماعية والصحية، والإعلام العربي، ولجنة حقوق الإنسان، وربما هناك لجان أخرى أغفلتها؟ ماذا عن السوق العربية المشتركة؟ ماذا عن دول شبه منهارة اقتصاديًّا، ومنها ما يرزح تحت عقوبات ناجمة عن أوضاع سياسية موغلة في الارتباط بالصراعات العالمية والإقليمية؟ ماذا عن سورية، اليمن، لبنان، العراق، السودان، ليبيا، الصومال، وغيرها؟
أمّا فلسطين، فتلك قضيةٌ أخرى، فلسطين الجمرة التي تحرق القلب على مدى السنوات، يمضي العالم إلى الأمام، تتغيّر أنظمة، وتتغيّر خرائط العالم، وتشتعل الحروب هناك وهنا، وتتصارع القوى الكبرى في نزاعها بشأن السيطرة على العالم، وتأتي الأوبئة، وتنهار اقتصادات وتتغوّل أخرى، وتبقى قضية فلسطين حاضرةً على "موائد" القادة والزعماء. وتبقى أمهات فلسطين ينجبن الأطفال ليكونوا شهداء، وتبقى الفصائل الفلسطينية، كما قادة هذه الدول وزعماؤها، في حالة خصام وعجز عن اللقاء أو الالتقاء حول مشروع نضالي أو سياسي. ويصدح الأمين العام لجامعة الدول العربية بصوته، مصرّحًا بالـ"التأكيد على ثوابت مركزية القضية الفلسطينية والالتزام بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية"، بل أيضًا "العمل العربي المشترك ورفض التدخلات الخارجية في الشؤون العربية"، بينما الشؤون العربية في معظم البلدان "العربية" ليست من اختصاص أصحابها، وليست أنظمتها صاحبة القرار.
هذا غيض من فيض مما يدعو إلى اليأس من قمم سابقة ولاحقة، بالنسبة للمواطن العربي المغلوب على أمره، منتهَك الحقوق في أكثر من بلد، وناقص الحقوق في أكثر دولها إشراقًا، لكن السؤال الحارق في العمق، والذي لا يكفّ عن نحر الصدور: تُرى، هل صحيح أن هذه الشعوب غير قادرة على تقديم أنظمةٍ أفضل مما هي عليه الصورة الحالية؟ هل شعوبنا هي المسؤولة عمّا نحن عليه من تراجع ونكوص إلى مساحات التاريخ القاحلة؟ ربما علينا انتظار أن تبدع المخيّلة الشعبية حلقاتٍ أخرى عن واقعنا المرير.