قطار الموت يصل إلى طرابلس
من الذي دفع سيدة عربية جميلة وأنيقة ومثقفة، إلى جانب أنها أول وزيرة خارجية لليبيا، إلى أن تنسف مستقبلها السياسي ومكانتها الاجتماعية، وتقبل بأن تلتقي مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين سرّا؟ سؤال أزعج كثيرين وفاجأهم، لأن نجلاء المنقوش، رغم أنها بلا ماضٍ سياسي، إلا أنها أثبتت حضورا متميّزا على الساحة الدبلوماسية الإقليمية والعالمية، وكان بعضهم يتوقّع لها مستقبلا جيدا داخل ليبيا وحتى خارجها. لكن السياسة سلسلة من المغامرات التي قد تؤدّي بصاحبها إلى سقوط سريع إذا أخطأ الحساب وأساء التقدير، وأسرع الخطى من دون أن يضع أقدامه على الطريق الصحيح، ليجد نفسَه يخرُج من الباب الخلفي.
المشكلة أكبر بكثير من نجلاء، فترتيبات الاجتماع بدأت منذ فترة، واللقاء الذي تم ما كان له أن يحصل من دون علم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، الذي فوجئ بدوره بالكشف عن هذا اللقاء، فواجهه بإيقاف الوزيرة مؤقتا عن العمل وإحالتها على التحقيق. لكن تداعيات الحدث ستكون أكبر وأعمق أثرا من ذلك بكثير.
كان معمّر القذافي يسمّي التطبيع مع إسرائيل "قطار الموت"، وكان يتوقع أن يصل إلى كل الدول العربية بما في ذلك ليبيا. وحاول أن يتصدّى لهذا التطبيع ويمنعه من أن يخترق بلاده. هو لم يكن مجنونا بالمعنى العضوي للكلمة، لكنه كان مزاجيا وحالما واعتباطيا في تصرّفاته وفي كثير من مواقفه وآرائه، خصوصا أنه كان شرقيا مستبدّا بامتياز. لم تكن أفكاره كلها خاطئة رغم سذاجة كثير منها. من ذلك إدراكه نسبيا طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، رغم أنه ظنّ أن تغيير اسم فلسطين يمكن أن يكون مدخلا لبناء دولة موحّدة تجمع الشعبين، وهي فكرة مضحكة، ماتت مع موت صاحبها.
بعد الثورة أو الانتفاضة، زادت أوضاع الليبيين سوءا، واشتغلت عليهم السياسات الدولية والإقليمية. كلٌّ يحاول أن يجرّهم إلى نفق من الأنفاق من أجل السيطرة على نفطهم، خصوصا بعدما احتكم الليبيون إلى السلاح، وانقسموا، ما هيّأهم للخضوع للمروّضين الإسرائيليين الذين أقنعوا عددا من سياسييهم في مواقع مختلفة بأن مصلحتهم ومصلحة بلادهم تمرّ بالضرورة عبر تشبيك العلاقات مع الدولة العبرية. من يريد ضمان البقاء في السلطة، ويريد الوصول إلى مواقع التأثير في العالم، عليه أن يستعين بتل أبيب وحلفائها.
كان من الطبيعي أن تكون الإدارة الأميركية من أهم الأطراف التي سعت إلى إلحاق ليبيا بالدول العربية المطبّعة مع إسرائيل. لهذا حرص الرئيس بايدن على إبقاء الاتصالات مع المسؤولين سرّا إلى أن تتهيأ الظروف المناسبة للإعلان عنها، لهذا كان غضبه شديدا عندما كشف الإسرائيليون السر قبل الأوان. كما كان الإيطاليون جزءا من الأخطبوط الدولي المكلف بإنجاز هذه المهمة، وآخرون بمن فيهم يهود ليبيون مهّدوا ورتبوا اللقاءات التمهيدية، حتى تكون الطبخة ناضجة صالحة للهضم.
هل كان الدبيبة وحكومته ومن ورائهم المجتمع الليبي مضطرّين للتورّط في مثل هذه الخطّة الملغّمة لإعادة ترتيب أوضاعهم؟ كان بالإمكان أن يناوروا كغيرهم، وأن يعتبروا الأولوية الآن تقتضي استكمال المرحلة الانتقالية من خلال إتمام الدستور، وتنظيم الانتخابات المعلقة، وتوحيد الجهات الحاملة للسلاح، وإنهاء حالة الانقسام السياسي. وهذه المهام في الأصل مطروحة على القوى المحلية. أما إذا جرى اللجوء إلى الأطراف الخارجية، بما في ذلك الجهات الإسرائيلية، فيا خيبة المسعى، لأن من شأن تدخّل هذه الجهات أن يزيد خلط الأوراق، ويجعل من ليبيا منطقة تنازع مفتوحة.
خطوة التطبيع التي أقدمت عليها ليبيا تعمّق حالة الضياع الاستراتيجي منذ إطاحة حكم القذافي، ويزيد من عدم الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي. كما أنه سيغذّي حالة الشك في حكومة الدبيبة المهدّدة بالسقوط، وذلك من الجزائر بالخصوص، المتخوّفة من الطوق الإسرائيلي، وبدرجة أقلّ تونس التي تعاني من غموض دبلوماسي غير مسبوق.
يسير قطار التطبيع بسرعة فائقة، هم يخطّطون، ومن العرب من يساعدهم على التنفيذ.