قضيىة خاشقجي .. من أجل حرية التعبير
حرّكت الإدارة الأميركية الجديدة قضية اغتيال الكاتب والصحافي السعودي، جمال خاشقجي، وهذا أمر يستحق الترحيب من المعنيين وغير المعنيين بحرية المهنة وحقوق الإنسان، فما حصل من اعتداء وحشي على خاشقحي، في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018 في القنصلية السعودية في إسطنبول، جريمة كاملة الأوصاف، تستدعي محاسبة كل أركانها، والبداية من الذي أصدر الأوامر ونفذها، وحتى الذي تستر عليها ودافع عنها وحاول تبريرها. وعلى الرغم من أن التقرير الأميركي لا يحمل جديدا على صعيد الحيثيات، فإن الرأي العام وأصحاب الحق ينتظرون من الولايات المتحدة خطواتٍ تنفيذية سريعة وجادّة، كي لا يتم اعتبار إحياء القضية من باب رفع العتب وتسجيل الموقف لا أكثر.
انتظار موقف وازن من واشنطن يرقى إلى مستوى جريمة بشعة تمليه اعتبارات كثيرة، أولها ألا تكون العدالة استنسابية، وهذا يتطلب أن تلي التقرير الأميركي أفعال تُنصف خاشقجي الذي لا يزال أهله وزملاؤه ينتظرون المحاسبة، لا لكي يتم إحقاق العدالة فقط، وترجع الحقوق إلى أصحابها، بل كي يتم إرساء أسس تردع كل من يفكر بالاعتداء على حرية الرأي وحق ممارسة مهنة الصحافة من دون خوف، سيما وأن خاشقجي دفع ثمن مقالاته التي كتبها في صحيفة واشنطن بوست التي تعد من أكبر الصحف في العالم، ذلك أنها صاحبة التاريخ المشهود في إثارة قضايا أحدثت زلازل سياسية كبيرة في الولايات المتحدة قبل غيرها، ومنها فضيحة "ووترغيت" التي أدّت إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون.
تحريك قضية خاشقجي يعني للصحافيين أن حياتهم ليست مستباحة ودماءهم مهدورة، وأن المهنة ممكنة في عالم اليوم، مهما بلغ توحش بعض الحكام. وستصبح مسألة محاسبة قاتلي خاشقجي بمثابة درس لكل من يتجرأ على حرية الرأي وحق التعبير. وعلى هذا، يبقى التحرّك الأميركي منقوصا حتى تصبح النظرة الأميركية إلى حرية التعبير أشمل، وألا تقف عند قضية خاشقجي فقط، فهناك صحافيون وكتّاب وأصحاب رأي بقبعون في السجون في السعودية نفسها، وغير السعودية من بلدان تعد حليفة للولايات المتحدة، وغالبية السجناء تم اعتقالهم وتعذيبهم، وبعضهم وراء القضبان منذ سنوات، مثل الشاعر الإماراتي أحمد منصور. وكل هؤلاء لم يحصلوا على الحق في محاكماتٍ عادلة، وتمنع عليهم السلطات أبسط الحقوق الخاصة بسجناء الرأي. وكي لا تكون العدالة استنسابية وبعيدة عن تصفية حسابات بين الدول، فإنها يجب أن تستند إلى أسس ذات طبيعة حقوقية على صعيد عالمي، وحان الوقت لأن يتم إنشاء آلياتٍ دوليةٍ صلبةٍ محميةٍ بقرارات من الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، وأن تكون على غرار التفتيش النووي مثلا، وهذ يتطلب تأسيس مرصد دولي متخصّص بمراقبة موضوع معتقلي الرأي والتعبير ومتابعته، وأن يكون لهؤلاء حق تعيين محامين دوليين للدفاع عنهم، وبذلك تنتهي قوانين الغاب السائدة حاليا، والتي تبيح للحكومات المستبدّة ممارسة عمليات التصفية الجسدية والاعتقالات بلا أي مبرّرات قانونية.
جيدٌ أن يتم إنصاف خاشقجي الذي يستحق ذلك وأكثر، ولكن لا بد من آليات دولية لحماية الصحافيين الذين يمارسون المهنة اليوم وسط شروط صعبة، تولد الإحباط في غالب الأوقات. وعليه، ينتظر الجسم الصحافي من إدارة بايدن خطوةً شجاعةً بالضغط على الحكومات الحليفة للولايات المتحدة تبدأ بالإفراج عن كل الصحافيين وسجناء الرأي وراء القضبان. وهذا شرط أساسي كي لا تكون العدالة أحادية واستنسابية ونوعا من رفع العتب، وحتى يصدق الصحافيون أن دماء زميلهم خاشقجي لم تذهب هدرا.
حرية المجتمعات من حرية الصحافة، هذه هي القاعدة التي أعلت من حرية التعبير في القرن العشرين، وبفضلها تطوّرت وسائل الإعلام، وصارت سلطة رابعة فعلا، وهذا ما ينقص عالمنا العربي.