قضية إقالة الشيخة مي في الميزان
قليلون جداً من قد سمعوا من قبل، وحتى أسبوع فقط، باسم الشيخة مي بنت محمد آل خليفة. لكن ما إن أصدر عاهل البحرين، الملك حمد بن عيسى آل خليفة، قراراً، (21 يوليو/ تموز)، مرسوماً بتعيين بديل لها في منصبها رئيسة لهيئة البحرين للثقافة والآثار، ما يعني إقالتها، حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بوسم يحتفي بها، عنوانه "شكرا_مي". ولو وضعت الأمور في نصابها السليم، فإن مثل هذا الوسم ما كان ليكون ممكناً أو متصوّراً، فسمعة البحرين، دولة ونظاماً، في السنوات الأخيرة، في الحضيض جراء خيارات الحكم السياسية، التي يقاربها الوعي والضمير الجَمَعِيَّانِ العربيان أنها مسيئة. ولو أردنا التفصيل لطال الكلام، ولكن يكفي التذكير هنا بعضوية البحرين في نادي الثورات المضادّة العربي، ومعاداتها حراكات ومطالب الحرية والكرامة والديمقراطية، وكذلك مسارعتها إلى تحالف علنيٍّ فاضح مع إسرائيل.
كل ما سبق لم يمنع من الاحتفاء بمسؤولة حكومية ومن العائلة الحاكمة في البحرين من نشطاء عرب محسوبين على المعسكر المقابل لذلك الذي تتخندق فيه دولتها، وإذا عرف السبب بطل العجب. في خلفية قرار الإقالة، تفيد تقارير بأن الشيخة مي شاركت، السبت 16 يوليو/ تموز الجاري، في مجلس عزاء للسفير الأميركي لدى البحرين، ستيفن بوندي، عقده في منزله بمناسبة وفاة والده. بدأت الشيخة بمصافحة الحضور وأحدهم أمامها يُعَرِّفُ بهم، وحين وصلت إلى السفير الإسرائيلي بالمنامة وعرفت صفته سحبت يدها ورفضت مصافحته، وطلبت من السفارة الأميركية عدم نشر صور مشاركتها في مجلس العزاء الذي كان مصوّراً. لم يكن هذا الموقف ليرضي السفير الأميركي، ولا السفير الإسرائيلي، ولا نظام الحكم الغارق حتى أذنيه في استرضاء إسرائيل والتحالف معها، إلى درجة تحويل المملكة إلى وكر استخباراتي لها في المنطقة. ومباشرة، تحرّكت أبواق التحريض على الشيخة مي، وَتَذَكَّروا ما يعدونه "نقيصة" أخرى منها، إذ كان سبق لها أن رفضت مشروعاً تقدّم به مستثمرون يهود أميركيون لتشييد حيٍّ يهودي في المنامة.
تبقى فلسطين محل إجماع في الوعي والضمير الجَمعِيَّيْنِ العربيين، مهما حاول بعض الأنظمة وبعض المثقفين المرتبطين بها، من المفلسين أخلاقياً، تشويههما
إذن، ما رفع من ذكر الشيخة مي ومكانتها، انحيازها العفوي إلى قضية مركزية في ضمير ووعي الأمة التي تنتمي إليها، لا شيء آخر، ذلك أنّ من المستبعد أن تكون معارضة لأغلب سياسات نظام بلادها، وهي من ينتمي إليه أصلاً وعملت فيه سنوات طويلة. هنا، نجد أربعة دروس شديدة الأهمية ينبغي التنبيه إليها. الأول، تبقى فلسطين محل إجماع في الوعي والضمير الجَمعِيَّيْنِ العربيين، مهما حاول بعض الأنظمة وبعض المثقفين المرتبطين بها، من المفلسين أخلاقياً، تشويههما. فلسطين كانت، وما زالت، رافعة خافضة عربياً، حسب الموقف منها، سلباً أو إيجاباً. الثاني، محبّة الشعوب العربية أو كرهها دولة أو نظاماً أو جهة ما، تنطلق من سجيّة بريئة، لا من تحيزات خبيثة، ولا هي نتاج عمليات غسل أدمغة، كما يزعم بعضهم. ولو كان الأمر كذلك، لما وجدت الشيخة مي من يتكلم عنها بهذه الدرجة من المحبة والتقدير. الثالث، معسكر الثورات المضادّة العربي والتواطؤ ضد تطلعات شعوبه يدرك يقيناً الحقيقتين السابقتين، ومن ثمَّ فإنه دائماً ما يحاول تزييف الحقائق، أو حتى الدفاع عن نفسه عندما يُتَّهَمُ بالتهوين أو الإساءة إلى الضمير والوعي الجَمعِيَّيْنِ العربيين. هذا ما تحاوله البحرين الآن، بتكذيب خبر الإقالة على خلفية رفض الشيخة مي مصافحة السفير الإسرائيلي. الرابع، وللمفارقة، لا يقبل الوعي والضمير الجَمعِيَّانِ العربيان الأعذار ولا تقنعهما المبرّرات متى ما ثارت شبهة حول موقف جهة ما من قضية مركزية، كما قضية فلسطين. وفي البحرين اليوم عبرة.
باختصار، قد تنجح بعض الأنظمة العربية وأدواتها من مؤسّسات إعلامية وثقافية ودينية وأمنية في تعكير صفو الوعي والضمير الجَمَعِيَّيْنِ العربيين بعض وقت، ولكنهما لا يلبثان أن يتخلصا تلقائياً من تلك الشوائب الدخيلة، ويعودا إلى نبعهما الصافي من دون كدر. يرتبط بذلك أن المعركة الحقيقية لقوى التغيير العربي تتطلب بحثاً في وسائل تأطير ذلك الوعي وذلك الضمير الجَمعِيَّينِ وتفعيلهما، في الوقت الذي تعمل فيه على تحصينهما.