قرداحي .. تفصيل صغير في صراع كبير
لم يستطع وزير الخارجية اللبناني، عبد الله بوحبيب، فهم أو تفهّم الإجراءات التي اتخذتها السعودية (ودول خليجية أخرى) ضد بلاده، فاعتبر أنها جاءت قاسية، ولا تتناسب مع تصريحاتٍ صدرت عن وزير "تلفزيوني" قبل توليه منصبه، واعتبر فيها حرب اليمن "عبثيّة". كيفما قلَّبها، لن يتمكّن الوزير بوحبيب، على الأرجح، من استيعاب المسألة، إذا ظل ينظر إليها من زاوية تصريحات زميل له أطلقها قبل وصوله إلى المنصب في إطار صفقة تحاصصٍ بين زعماء الطوائف، في حين أن قطع السعودية علاقاتها مع لبنان، ووقف كل أشكال التعامل معه، لا يمكن فهمه إلا في سياق التطورات التي شهدتها المنطقة أخيراً، من أفغانستان واليمن، مروراً بالعراق وسورية واتفاق إمدادات الغاز المصري (الإسرائيلي) إلى لبنان والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وتعثّر مفاوضات النووي الإيراني، وارتباك إدارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أمام التطوّرات في القوقاز، وارتفاع أسعار النفط العالمية، وصولاً إلى المحادثات التي تجريها السعودية مع إيران في بغداد، منذ شهر إبريل/ نيسان الماضي.
ولنبدأ بمحادثات بغداد، التي وافقت الرياض على إجرائها على مضض، بضغط من إدارة الرئيس بايدن، إذ جعلت من وقف الحرب في اليمن أولوية، فعيّنت مبعوثاً خاصاً، توماس ليندركينغ، للعمل مع الموفد الأممي إلى اليمن، ورفعت اسم جماعة الحوثي من قائمة التنظيمات الإرهابية، وأوقفت دعمها اللوجستي والعملياتي لقوات التحالف، وجمّدت بيع أسلحة وذخائر تستخدمها السعودية في حربها في اليمن. لكن، بدلاً من المساهمة في تخفيف التوتر، وتمهيد الطريق نحو وقف الحرب، شجّعت السياسات الأميركية الحوثي وإيران على التفكير في الحسم عسكرياً. وبالفعل، تمكّن الحوثيون من تحقيق تقدّم مهم في مأرب وشبوة والبيضاء على مدى الشهور الأخيرة، وظفه الإيرانيون في مباحثات بغداد لانتزاع تنازلاتٍ من السعودية على مستوى الإقليم. وتلمّس السعوديون فرصةً للرد على إيران، ودفعها إلى تقديم تنازلاتٍ في مباحثات بغداد في ضوء الانتكاسات التي واجهتها سياساتها أخيراً على عدة جبهات. وإضافة إلى أنها لم تستطع تعويض غياب قاسم سليماني عن مسرح الأحداث في المنطقة، واجهت إيران إخفاقاتٍ في ثلاثة ملفات رئيسة أخيراً: أولها عودة حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان بعد عشرين عاماً من إطاحتها بتنسيق أميركي - إيراني، وضياع، من ثم، كل استثمارات طهران في حلفائها من الهزارة والأوزبك والطاجيك وبعض قبائل البشتون. الملف الثاني مرتبط بصعود النفوذ التركي في القوقاز، وتوجّه أذربيجان نحو السيطرة على الحدود الأرمينية - الإيرانية، وقطع طريق إيران نحو البحر الأسود وأوروبا، في مقابل فتح طريق برّي يصل تركيا بقلب القوقاز وآسيا الوسطى عبر إقليم ناختشيفان. الملف الثالث والأهم مرتبط بنتائج الانتخابات العراقية، حيث مُني حلفاء إيران بهزيمة نكراء، قد تفتح الباب أمام تغيير كبير في المشهد العراقي الذي تحاول السعودية الاضطلاع بدور فيه. في سورية أيضاً، يضعف الموقف الإيراني لمصلحة قوى منافسة، إذ تمكّنت روسيا أخيراً من عقد تفاهمات مع واشنطن وعمّان وتل أبيب في صفقةٍ أُبعدت بموجبها إيران عن الحدود مع الأردن وفلسطين المحتلة، وكرّست نفوذها فيها. في الوقت نفسه، يجري تغييب إيران كلياً عن تفاهمات الشمال بين ثلاثي موسكو - أنقرة - واشنطن، ويستمر العمل بالتفاهم الروسي - الإسرائيلي، الهادف إلى إضعاف الوجود العسكري الإيراني في "الكوريدور" البرّي الممتد من الحدود السورية مع العراق إلى لبنان.
وفيما تواجه طهران تحدّيات في كل مناطق نفوذها الإقليمي، تستشعر السعودية بعض القوة المتأتية من ارتفاع أسعار النفط التي باتت سخونتها تلسع إدارة بايدن المتوجّسة من خسارة الانتخابات النصفية العام المقبل، وتزداد من ثم حاجتها إلى تعاون السعودية. كل هذه العوامل شجّعت السعودية على التصعيد، خصوصاً في ضوء التطورات الأخيرة في مأرب، التي يلعب حزب الله اللبناني دوراً مهماً فيها، فيما يواجه وضعاً صعباً في لبنان بسبب التحقيقات في مرفأ بيروت، واستعداد جزء من المسيحيين اللبنانيين (القوات اللبنانية) لمواجهته على أبواب انتخاباتٍ نيابيةٍ قد تشهد تكراراً للسيناريو العراقي.
تصريحات قرداحي في هذا السياق ليست سوى تفصيل باهت صغير في صراع إقليمي كبير، يتوقع أن يشتد بعد تلاشي زخم "التهدئة" الذي جاءت به إدارة بايدن.