في نقد زيلينسكي

25 مايو 2022

زيلينسكي، خلال مؤتمر صحفي في كييف (28/4/2022/Getty)

+ الخط -

تحوّل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى ظاهرة سياسية حقيقية، وتحوّلت خطبه التي لا تنتهي إلى ظاهرة إعلامية تجعله حاضرا يوميا، وعلى مدار الساعة، في جميع نشرات الأخبار على القنوات الفضائية العالمية، وصوُره تكاد لا تفارق أغلفة المجلات والصحف السيارة في العالم. وفي الغرب عموما، أصبح يُنظر إليه رمزًا للمقاومة ضد الغازي الروسي، وبطلا قوميا يناضل من أجل تحرير بلاده، فاجأ حتى أقرب مواطنيه بأدائه البارع الذي يمزج فيه بين فن التمثيل الذي يتقنه وقدرته البارعة على التواصل السياسي.

عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، كان هاجس الدول الغربية الكبرى هو تأمين دبلوماسييها في أوكرانيا، ونقلت أغلب تلك الدول سفاراتها مؤقتا إلى مدن قريبة من الحدود الأوكرانية البولونية لتسهيل ترحيلهم في حال دخلت قوات بوتين إلى العاصمة كييف، وهو سيناريو كان يبدو قاب قوسين أو أدنى من التحقق، قبيل اندلاع الحرب. ويُعتقد أن الأميركيين وضعوا خطة طوارئ لنقل الرئيس الأوكراني خارج بلاده، واقترحوا عليه تأسيس حكومة منفى في الخارج في حال سقوط كييف، لكن رد زيلينسكي كان مهينا لأكبر قوة عسكرية في العالم، عندما قال لهم "أنا بحاجة إلى ذخيرة، وليس إلى سيارة أجرة". وبعد يومين من الغزو الروسي، خرج الرئيس الأوكراني لحظاتٍ بعد شيوع خبر إفلاته من محاولة اغتيال دبّرها كوماندوز روسي إلى شوارع عاصمة بلاده التي كانت مهجورة، وتحت استهداف النيران الروسية، ليقول للعالم "أنا هنا"، وبعدها ظهر داخل مكتبه وخلفه متاريس من أكياس الرمال، وهو يوقّع على طلب بلاده الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. كانت تلك الصور ضربةً بارعةً في التواصل السياسي وبداية ميلاد ظاهرة زيلينسكي، ليس فقط في الخارج، وإنما أيضا داخل بلاده حيث لم يكن يُؤخذ على محمل الجد من طرف مواطنيه الذين كانت لديهم شكوك حقيقية حول الطريقة التي سيتصرّف بها في حالة حدوث صراع عسكري، حتى تحول اليوم في نظرهم إلى بطل قومي.

تحولت الحرب الروسية على أوكرانيا اليوم إلى مطايا لقضاء مآرب أخرى. ويبدو هنا دور زيلينسكي مثل حصان طروادة الذي يستغله الغرب لتصفية حساباته مع عدوه روسيا البوتينية

هذا الانتقال المفاجئ من لعب دور البطل الكوميدي في مسلسل تلفزيوني، إلى لعب دور البطل الإيجابي على ساحة المعركة حوّل زيلنيسكي إلى ظاهرة، يريد الكل أن يستثمرها، خصوصا من الأوروبيين الذين فوجئوا بالحرب، تعود إلى قارّتهم العجوز، ورأوا في زيلينسكي البطل القادر على الوقوف في وجهها. وفي عموم الغرب من كندا حتى أستراليا، أقنعت الحكومات شعوبها بأن ما وراء هذا الصراع هو أكبر من وقف الغزو الروسي لبلد مستقلّ، بما أن الأمر يتعلق بالمستقبل الديمقراطي وقيمه الغربية التي توجد على المحكّ، وكانت هذه نقطة التحوّل الكبير في الصراع القديم الجديد بين الغرب (وما يمثله من قيم) الأنظمة الشمولية، لكن إلى أي حدّ يعتبر هذا التحوّل عميقا؟ وما هي آثاره ما بعد نهاية الحرب على رسم معالم عالم جديد؟ يمكننا، منذ الآن، الإجابة بأن لا شيء سيتغير، لأن القيم الغربية تصبح مقدّسة وتستوجب الدفاع عنها بالغالي والنفيس عندما يتعلق الأمر بالدفاع عنها داخل الدول الغربية، أو لمصلحة شعوب غربية، أما عندما تكون ضحيتَها شعوب من خارج الدائرة الغربية فيصبح الدفاع عنها داخل عواصم الغرب "شفاهيا"، هذا إن حدث، من باب رفع العتب ليس إلا!

لكن، لنعد ونطرح السؤال بطريقة أخرى، هل كان زيلينسكي سيتحوّل إلى ظاهرة سياسية يلقى خطاباته المستفزة لقادة الغرب وشعوبه أمام برلماناتهم وتحت تصفيق نوابهم، ويستدعى لافتتاح المنتديات الكبرى، من مهرجان كان السينمائي إلى لقاءات منتجع دافوس الاقتصادي، لو لم يكن أوروبيا؟ هل كان زيلينسكي سيصمد كل هذه الشهور من الحرب التي دمّرت نصف بلاده لو كان الستة ملايين أوكراني الذين فروا (حتى الآن) من نيران الحرب يعيشون لاجئين ومشرّدين في مخيمات لجوء بلا ماء ولا كهرباء على حدود الدول المتاخمة لأوكرانيا؟ وهل كانت القوات الأوكرانية ستستبسل في الحرب طوال الشهور الماضية لو لم يتدفق عليها الدعم العسكري النوعي والسخي من كل عواصم الغرب؟ وأخيرا، هل كان الرئيس زيلينسكي، الذي يطلب اليوم من العالم أن يقدّم لبلاده خمسة مليارات دولار شهريا لمواصلة مجهودها الحربي، سينام مرتاحا في قصره في كييف، وهو مطمئن إلى إعادة بناء بلاده بعد الحرب، لو لم يتلق حتى الآن مليارات الدولارات من الدول الغربية آخرها 40 مليار دولار من أميركا؟

من حقنا أن ننتقد زيلينسكي عندما نراه يجرّنا جميعاً إلى حربٍ بلا نهاية

أطرح هذه الأسئلة، لأنها تثير مفارقات هذه الحرب الغريبة التي يجب ألا نخطئ القول إنها كانت نتيجة اعتداء سافر ومدان من روسيا على بلد مستقل، لكنها تحولت اليوم إلى مطايا لقضاء مآرب أخرى. ويبدو هنا دور زيلينسكي مثل حصان طروادة الذي يستغله الغرب لتصفية حساباته مع عدوه روسيا البوتينية، باسم الدفاع عن الديمقراطية والعالم الحر والقيم الغربية، وهلمّ جرا من الشعارات الكبيرة التي يبرّر بها الغرب حروبه، عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن مصالحه.

لقد نجح زيلينسكي في إثارة الضمير الجماعي الغربي، وكسب معركة التعاطف مع بلده وشعبه في الغرب، ودفع الغرب إلى فرض عقوبات اقتصادية تاريخية وغير مسبوقة على روسيا. لكن عندما ننظر إلى ثمن هذا التعاطف والتأييد، فإن المقابل الذي دفعه ويدفعه الشعب الأوكراني يوميا باهظ جدا، وما ينتظره أسوأ مما يمكن توقعه، لأن الحرب ما زالت في بداياتها، خصوصا عندما نسمع الرئيس الأوكراني يطالب بمزيد من الدعم المادي والعسكري لبلاده، ويستفز بخطاباته زعماء الدول الغربية لجرّهم إلى الانخراط بشكل أكبر في الحرب، فهو كمن يقود العالم بقصد أو عن غير قصد إلى "حرب عالمية ثالثة" لا تبقي ولا تذر!

لقد سبق أن قالها الرئيس البرازيلي الأسبق، لولا دا سيلفا، عندما اعتبر أن الرئيس الأوكراني "مسؤول" عن النزاع في بلاده "بالدرجة نفسها" لمسؤولية نظيريه، الروسي والأميركي، ودعا أنصاره إلى الكفّ عن تشجيعه على تأجيج نار الحرب فقط من أجل أن يظلّ هو يحتل شاشات التلفزيون في العالم! من حق زيلينسكي أن يدافع عن بلاده بكل ما أوتي من مواهب، وأن يدفع عنها الظلم الذي تعرّضت له بكل الوسائل المتاحة له. ولكن من حقنا أن ننتقده عندما نراه يجرّنا جميعا إلى حربٍ بلا نهاية، وكما يقال "الطريق إلى جهنم مفروشٌ بالنيات الحسنة".

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).