الألعاب الأولمبية وازدواجية المعايير

24 يوليو 2024

متظاهرون في باريس يطالبون بمنع مشاركة إسرائيل في الأولمبياد (6/7/2024 الأناضول)

+ الخط -

تُنظم، بعد أيام، دورة الألعاب الأولمبية 2024 في باريس، وسط نقاش حادّ بشأن ازدواجية المعايير التي تعتمدها اللجنة الأولمبية الدولية، والبلد المُستضيف هذه التظاهرة الرياضية، وذلك بسبب المواقف المزدوجة إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب العدوانية التي تشنّها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفّة الغربية. ولتبرير موقفها المُنحاز إلى إسرائيل، لجأت اللجنة الأولمبية الدولية إلى حُجّة "الحياد السياسي"، وهو موقف يحجب الحقيقة المُؤسِفة بما أنّ اختيار الحياد في هذه الحالة يعني الانحياز ضمناً إلى جانب المُجرم المُعتدِي، أي إسرائيل التي سوف يسمح لها بالمشاركة في هذه الدورة ورفع علمها في الملاعب الأولمبية، في وقت يُنفّذ فيه جيشها جرائم الإبادة الجماعية يوميّاً في غزّة، التي تحوّلت أكبرَ مقبرةٍ مفتوحةٍ في التاريخ، يُستشهد ويصاب فيها يوميّاً عشرات من الأبرياء، أغلبهم من الأطفال والنساء، الذين يُقصَفون بأقوى الأسلحة المُدمّرة في العالم، وعلى الهواء مباشرة، أمام مَرأى العالمين ومسمعهم.

في فرنسا، حطّمت نسبة التعصّب في الدفاع عن دولة يقوم جيشها بأبشع جرائمَ ضدّ الإنسانية الأرقام القياسية

مع ذلك، نجد من يدافع عن "حقّ" إسرائيل في المشاركة في هذه الألعاب، ومن يشنّ حملات تعصّب ضدّ من يُعارض هذه المشاركة. وفي فرنسا، حطّمت نسبة التعصّب في الدفاع عن دولة يقوم جيشها بأبشع جرائمَ ضدّ الإنسانية الأرقام القياسية كلّها في النفاق وإثارة الحملات العدائية المثير للاشمئزاز ضدّ الأصوات التي تطالب اللجنة الأولمبية باحترام أخلاقياتها أولاً، وباعتماد المعايير نفسها في معاقبة الدول غير المنضبطة لها. وجديد الحملات المُقزّزة تلك التي تقودها اليوم جماعة يهودية فرنسية صهيونية ضدّ نائب يساري فرنسي من حزب فرنسا الأبيّة، لقوله إنّ الرياضيين الإسرائيليين غير مُرحَّب بهم في الألعاب الأولمبية في باريس بسبب العدوان ودماء الأبرياء في غزّة، ودعوته إلى منع رفع العلم الإسرائيلي وعزف النشيد الصهيوني، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى روسيا. فما دعا له هذا النائب اليساري وضع نهاية للمعايير المزدوجة، ما أثار عليه حملةً شعواء انخرط فيها زملاء له من أحزاب اليمين والمحافظين والاشتراكيين، وذهب أحد نوّاب حزب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى حدّ الدعوة المجنونة إل حلّ حزب فرنسا الأبية، الذي ينتمي إليه النائب، مع العلم أنّ هذا الحزب، الذي لا يُخفي تعاطفه مع الفلسطينيين، تصدّر أحزاب اليسار في آخر انتخابات تشريعية شهدتها فرنسا قبل ثلاثة أسابيع فقط (!).
وفي المقابل، لم تصدر أيّ ردّة فعل هستيرية مثل هذه التي نشاهده اليوم عندما أعلنت عمدة باريس، آن هيدالغو، في مارس/آذار الماضي، أنّ "الرياضيين الروس غير مرحّب بهم" في باريس لحضور الألعاب الأولمبية، وهي العبارة نفسها التي استعملها النائب اليساري الذي طالب بتطبيق المبدأ نفسه على الإسرائيليين. وفي الحالة الأولى، لم يُسبّب تصريح عمدة باريس أيّ جدل أو إدانة من أيّ نوع. فإذا كان منع روسيا من المشاركة في هذه الألعاب لأنها دولةٌ ترتكب جرائم حرب في أوكرانيا، بل ومنع حتّى دولة بيلاروسيا لأنّها فقط حليفة روسيا، فإنّ الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزّة أبشع وأفظع. لنتذكّر أنّه خلال عشرة أشهر فقط، قتلت إسرائيل نحو 40 ألف فلسطيني، بينهم 19 ألف طفل، وهو عدد يفوق ما قتلته جميع الصراعات العالمية من أطفال خلال 20 عاماً، أمّا عدد المصابين والجرحى والمفقودين فيفوق مائة ألف، ومجموع الضحايا يعادل 8% من سكّان غزّة، وهذه نسبة قياسية غير مسبوقة، لم تشهدها أيّ حرب، بما في ذلك الحربان الكونيتان. ومع ذلك، سيُدعى الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لحضور حفل الافتتاح، والوقوف مع ضيوف الشرف في المنصّة الرئيسية لألعابٍ المفروض أنّها تمجّد السلم والأمن بين الشعوب (!).
عندما غزت روسيا أوكرانيا قبل عامَين، ردّت اللجنة الأولمبية الدولية بسرعة بإدانة روسيا بسبب تحريضها على الحرب، بما أنّ "الحرب هي نقيض المُثل الأولمبية"، ولتبرير قراراتها المُجحفة ضدّ روسيا، قالت اللجنة الأولمبية إنّها قرّرت استبعاد روسيا دولةً، مع السماح لرياضييها ورياضيي بيلاروسيا بالمشاركة في هذه الألعاب، ولكن بشروط، أي ألّا يكونوا قد دعموا الحرب في أوكرانيا، وأن يتنافسوا تحت رايةٍ مُحايدة، وأن لا يُعزف نشيدا بلديهما، ما حدا بروسيا إلى وصف هذه الشروط بأنّها "مُهينة"، وإعلانها مقاطعة الألعاب. هذا التمييز الصارخ ضدّ روسيا ورياضييها، تحت تأثير دوائر صنع القرار الغربي، دفع رئيس "فرنسا الأبية"، جان لوك ميلانشون، إلى المطالبة بـ"تطبيق المعايير نفسها على الجميع"، لكنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دافع عن مشاركة إسرائيل، وبرّر موقفه بأنّ الدولة العبرية تعرّضت لهجوم وصفه بـ"الإرهابي"، ونسي جرائم الحرب التي يُنفّذها جيشها يوميّاً في غزّة والضفة الغربية، بل وذهب إلى حدّ وصف لاعبي إسرائيل بأنّهم سيكونون "حاملي سلام" في هذه الألعاب (!). وباستثناء اللجنة الأولمبية الفلسطينية، التي دعت إلى استبعاد المشاركة الفلسطينية، فإنّ باقي الاتحادات العربية التزمت صمت القبور.

من بين 87 لاعباً يمثّلون الكيان الصهيوني في أولمبياد 2024، هناك من تلطّخت أيديهم بدماء الفلسطينيين جنوداً في جيش الاحتلال

لا مجال لمقارنة الحرب الروسية الأوكرانية الغربية مع الحرب الإجرامية التي تشنّها إسرائيل على سكّانٍ عزّلٍ أبرياءَ دمّرت مساكنهم ومستشفياتهم ومدارسهم، محرومين من الغذاء والدواء، ومُطاردين يوميّاً تحت قصف مُدمّر يلاحقهم أينما حلّوا وارتحلوا، ما يجعل قرارات اللجنة الأولمبية والحكومات الغربية المساندة لها تُظهر ازدواجيةً صارخةً في المعايير. وإذا كانت روسيا بحربها على أوكرانيا قد أخلّت بمبادئ الميثاق الأولمبي، عندما غزا جيشها الأراضي الأوكرانية، فماذا يقال عن إسرائيل، التي تحتلّ الأراضي الفلسطينية، وتقتل وتشرّد وتعاقب وتسجن شعباً منذ سبعة عقود، وخلال آخر عشرة أشهر فقط، قتلت أكثر من 400 رياضي فلسطيني، وحوّلت ملعب كرة القدم في غزّة المدمّرة معتقلاً مفتوحاً، حشرت فيه عشرات المُعتقَلين الأبرياء مقيّدي الأيدي ومعصوبي الأعين، مُجرّدين من ملابسهم إلى ما يستر عوراتهم؟ إنّ أقلّ ما يمكن أن يوصف به موقف اللجنة الأولمبية (والحكومات الغربية) هو النفاق والخزي، والعار الذي سوف يلاحقها عندما سيُكتشف غداً أنّ من بين 87 لاعباً إسرائيلياً، يمثّلون الكيان الصهيوني في هذه الدورة، هناك من سبق لهم أن خدموا في صفوف جيش الحرب الإسرائيلي، ومن تلطّخت أيديهم بدماء الأبرياء الفلسطينيين.
أمّا الذريعة غير المُقنعة التي لجأت إليها اللجنة الأولمبية الدولية، المُتمثّلة في "الحياد السياسي"، فربّ عذرٍ أكبرُ من زلّة، لأنّ هذا الموقف لا يمكن له أن يحجُب الحقيقة المُحزنة، أنّ اختيار الحياد في هذه الحالة يعني النفاق الصارخ، الذي يفضح الوجه البشع للغرب عندما يتعلّق بتغطية جرائم إسرائيل، التي ترقى إلى جرائمَ ضدّ الإنسانية.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).