في مراجعة فرنسا قوانين الهجرة: الانغلاق عن الآخر؟
بدأت الحكومة الفرنسية مناقشة مشروع قانون تعدّل به ترتيبات استقبال فرنسا الأجانب، وتحدّد، من خلاله، شروط إقامة المهاجرين في فرنسا بطريقة شرعية، وهو المشروع الذي تحدّثت عنه بعض الوسائل الإعلامية، ولقي انتقادا من اليمين واليسار، على حدّ سواء، لتضمّنه بنودا وإجراءاتٍ لن تسوّي وضعيّات الأجانب، ولن تمنح لهم حقوق الإقامة في فرنسا، بل ستوجد إشكالياتٍ جمّة.
هناك، بداية، أسباب يشير إليها المحلّلون في لجوء الدُّول الغربية إلى الاستعانة بالأيدي العاملة من خارج بلدانها، والتّي، على أساسها، تُسنُّ قوانين تحفظ لهم حقوقهم، وتحدّد شروط قبولهم للعمل والإقامة في تلك البلدان. تشير تلك الأسباب إلى ثلاثة مستويات: الأوّل اقتصادي، حيث تكثر مناصب الشُّغل التّي لا يريد سكّان تلك البلدان العمل فيها لعدم تناسبها مع تدنّي أجور من يقوم بها، وحاجة الرّأسماليين (رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال) إلى تنافسية بأقلّ الأجور، لا يمكن أن تكون إلاّ لمن هم من خارج منظومة الغرب أو الاتّحاد الأوروبي، كما أنّ ثمّة حاجة ملحّة من ناحية، ومؤقّتة من ناحية أخرى، قد تدفع إلى الاستعانة بتلك الأيدي العاملة من دون الحاجة إلى أن تكون لذلك تداعيات على سياسات الهجرة.
يتعلق السّبب الثّاني بالحاجة إلى التّعارف الحضاري وعدم الانعزال عن العالم، خصوصا في جانبيه الثّقافي والهوياتي، اذ يريد الغرب، نظريا، الاختلاط مع بقيّة العالم والانفتاح على العناصر البشرية الأخرى القادمة من فضاءاتٍ متعدّدة ومغايرة للغرب. ولهذا، هو يسنّ تلك القوانين التي تفتح الباب لهجرة انتقائية، وعلى أساس كوتات (حصص)، ونسب محدّدة سلفا.
قد تحتاج فرنسا، ومعها الغرب، إلى الاستعانة باليد العاملة المهاجرة، بسبب أنّها تفكّر في الاستثمار في الهجرة الانتقائية، أي رصد الخبرات التي من الممكن أن تصنع الابتكار والإبداع، حيث يعلم الجميع أن المهندس الذي يهاجر هو فقدان يدٍ عاملة ماهرة، والأكثر من ذلك، فقدان لرأس مال كبير يعادل مليون دولار قيمة التكوين والاستفادة ما لا يقل عن عشر سنوات لاستعادة تلك القيمة. وبالنتيجة، كلّ طبيب، مهندس، باحث أو عامل ماهر تتمّ استمالته للهجرة هو قيمة مهدرة بكلّ ما للكلمة من معنى على الأصعدة كافة، خصوصا الاقتصادية منها.
يضع مشروع قانون في فرنسا الحدود الجديدة للتّعامل مع قضية الهجرة، واعتبار أنّ كلّ ما يتجاوز ذلك هو أمن قومي
في المحصّلة، يضع مشروع القانون الحدود الجديدة للتّعامل مع قضية الهجرة، واعتبار أنّ كلّ ما يتجاوز ذلك هو أمن قومي، لأنّه يمسُّ الاقتصاد، من ناحية، ويضر النّسق الهوياتي والحضاري للغرب من ناحية أخرى، وهو ما تحاول الدُّول الغربية، ومنها فرنسا، الآن، التّحضير له لتجاوز العقبات القانونية والحقوقية التّي تمّت إقامتها، وأضحت مانعة قيام الحكومات، الشّعبوية منها بصفة خاصّة، بكلّ ما يسمح لها بالحدّ من الهجرة، أو سنّ قوانين صارمة لترحيل المهاجرين، حتّى المقيمين منهم بصفة شرعية، بحجّة أنّ هؤلاء يشكّلون مقدّمة ما بات يُعرف بالاستبدال الكبير، تلك النّظرية المؤامراتية التّي حاكها المنظّرون اليمينيون المتطرّفون، وأصبحت حديث السّاسة، بل ديباجة حملاتهم الانتخابية ونقاشاتهم السّياسية.
يريد الفرنسيون مراجعة منظومتهم القانونية، لأنّها لم تعد مناسبة لتّغيرّاتٍ كثيرة حصلت في العالم، وكانت لها تداعيات على تفكير النُّخبة وإدراكها الصّراع وميكانيزمات إدارته في عالم معقّد ويزداد تشابكا. على هذا، توصّلوا إلى أنّ ثمة عقبتين تحولان دون بقاء الأمور على ما هي عليه، أو لنقل هي تبريراتٌ يريدون التحرّر على أساسها من تلك المنظومة التي يعتبرونها بالية أو غير متكافئة مع التطوّر في الأخلاقيات البراغماتية التي أضحت مرتكز مسار كلّ التحرّكات، أيّا كان نوعها.
تتمثّل العقبة الأولى في السُّمو القانوني للتّشريعات الأوروبية على التّشريعات الوطنية في مسائل الهجرة، الإقامـة والحدود، والتّي يجب تعديلها للتّكيّف مع تلك المتغيّرات، حتّى إن لزم الأمر الخروج من دائرة تلك الأخلاقيات، وما كان يعرف بالمنظومات الحقوقية الخاصة بالمساواة، العدالة والأخوّة، وهي شعار الثّورة الفرنسية التي اندلعت في 1789. وقد سبق لأوروبا التّنديد بما قامت به المجر، منذ مدة، من الإعلان عن تعديل مبدأ سموّ التّشريع الأوروبي على التّشريع الوطني، ليصلوا، في نهاية المطاف، إلى تبنّي المبدأ ذاته، ولكن تحت غطاء الشعبوية والاستبدال الكبير.
تريد أوروبا التّحرُّر من قيود الأخلاقيات السّياسية على خلفية التّراجع الذي تشهده على خريطة التّنافس العالمـي
تأتي العقبة الثّانية نتيجة حلّ المعضلة الأولى الخاصّة بالمنظومة التّشريعية الخاصّة بالهجرة، والتّي تعني، هنا، التّخلّي النّهائي عن الخطاب المعياري الأخلاقي الذّي كانت أوروبا تريد صبغ خطابها به. ولم تعد، الآن، بسبب تلك المعطيات الاقتصادية والتّغيُّرات السّياسية، مع صعود اليمين والتيّار الشعبوي في أكثر من بلد إلى الحكم، قادرة على الاحتفاظ به أو خداع العالم من خلاله. وقد بدا ذلك واضحا من خلال ازدواجية المعايير في التّعامل مع الأوكرانيين الفارّين من أتون الحرب، ليجدوا لهم بيوتا، عملا ووثائق إقامة، في حين أنّ ذلك كله كان متعذّرا أو ممنوعا على المهاجرين من أصول أخرى، لأسباب اقتصادية، ما أسقط القناع، وأبرز التوجُّه العرقي للخطاب المعياري والأخلاقيات الجديدة التّي على أساسها سيُقام العالم الجديد.
تريد أوروبا التّحرُّر من قيود الأخلاقيات السّياسية على خلفية التّراجع الذي تشهده على خريطة التّنافس العالمـي، وعلى كل الأصعدة. وبهذا، هي تسارع الخطى، ليس لتدارك عقلاني لذلك التّأخُّر، بل للتّكيُّف معه تحالفا مع الأقوى في الهرمية العالمية. ولهذا، هي تسعى إلى مراجعة منظومتها القانونية لتكون ملائمة مع متطلّبات الرّأسمالية العالمية المتوحّشة التي تريد يدا عاملة رخيصة قد تستعين بها. ولكن إذا وجدت سبيلا إلى التّوطين الرخيص لصناعاتها في بلدان منشأ تلك الهجرة، حيث الظُّروف المؤاتية للرّبح الكبير وللتّنافُسية الأرخص، فهي لا تتوانى عن تغيير سياساتها للتّكيُّف مع الأوضاع الجديدة.
سيفتح ملفُّ الهجرة نقاشاً سياسياً يشدّد من إجراءات التّضييق على الهجرة الموجودة، منذ أجيال، في فرنسا
بالعودة إلى إرادة وزير الدّاخلية الفرنسي، دارمانان، تقديم مشروع قانون لمراجعة كاملة للمنظومة القانونية التي تُؤسّس لملفّ الهجرة، ثمّة إجراء يبرز تلك التّوجُّهات الجديدة للطّبقة السّياسية الأوروبية، وخصوصا في باب الأدمغة وسرقتها، بما للكلمة من معنى حقيقي للسّرقة والسّلب، لأنّ الإجراء المشار إليه هو الهجرة الانتقائية على أساس التّخصُّص، الإبداع والابتكار، وبقيمة مضافة تتضمّن مؤشّري الاستخدام الكلي للمؤهّلات، ومن دون استثمار أدنى مال، أي الرّبح التامّ والكامل وفق العقلية الرّأسمالية.
كان لهذا الإجراء نصيب الأسد من النّقاش. لأنّه، للمفارقة، الباب الذي لقي توافقا لدى تيّارات السّاسة الفرنسيين، أيّا كانت مشاربهم، لعلمهم أن الهجرة الانتقائية ربح كامل من دون استثمار، إضافة إلى رجائهم أن تكون هذه الهجرة المنتقاة من دون تداعيات الإشكالية الهوياتية، إذ إنّ من سيأتي هو من النُّخبة، ويُسهّل اندماجه في منظومة الهوية الغربية، بمعنى أنّ الرّبح مضاعف اقتصاديا وسياسيا. وعلى أساسه، سيكون هذا الملفّ أسهل نقطة سيتمّ التّوافق بشأنها داخل البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية)، بما أنّ التّشريعيات أخيرا جعلت من تركيبته فسيفساء سياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.
على هذا، سيفتح ملفُّ الهجرة نقاشا سياسيا يشدّد من إجراءات التّضييق على الهجرة الموجودة، منذ أجيال، في فرنسا، مع تخصيص بندٍ للاستمرار في نهب خيرات جنوب ضفّة المتوسّط من المغرب العربي، على وجه الخصوص، موطن تلك النُّخبة التّي ستشكّل تركيبة الهجرة الانتقائية، بالنّظر إلى عامل اللُّغة، في الأساس، لتكون المرحلة المقبلة، مرحلة الصعوبات الاقتصادية ومرحلة سن قوانين ذات بعد اجتماعي على غرار قانون الّتقاعد، هي مرحلة بعنوان مرتقب، هو حلّ الجمعية الوطنية (الغرفة السُّفلى للبرلمان الفرنسي)، بعد إقرار تلك القوانين المثيرة للجدل، وإجراء انتخابات مبكّرة قد تسمح لفرنسا بالانضمام إلى ركب البلدان التّي سيرأس حكومتها اليمين المتطرّف بعد حيازته، في يونيو/ حزيران الماضي، في أثناء الانتخابات التشريعية، على قرابة مائة مقعد في نتيجة سياسية قياسية، لم يسبق لها مثيل.