في مديح البطء

24 يناير 2023

(عبد الفتاح بلالي)

+ الخط -

أقرأ ببطء، أعترف، ولا يعنيني كثيرا ما تُقبل على قراءته "الجماهيرُ" الصغيرة أو الكبيرة، الشعبية أو النخبوية، مستفيضةً في نشر أخباره والإشادة به. لستُ أثق بأذواق كثرةٍ تنشر آراءها وتقييماتها كيفما اتّفق، على وسائل التواصل الاجتماعي أو المواقع المخصّصة للقرّاء. هذا ليس تحقيرا أو انتقاصا من آراء بعضٍ قليل ممّن أحترم، ولكنه نوعٌ من المقاومة إذا صحّ التعبير، وسباحةٌ بعكس التيّار الجارف الذي يُغرق كلّ ما يصدر في بحر القراءات السريعة، تلك التي تستهلكُ من دون أن تتأنّى أو تتمهّل أو تتساءل أو تُسائل. أقرأ ببطء، ويُشعرني ذلك بامتلاء وبشيء من الذنب يترافق وضيقا متواترا، حين ألحظ كم فاتني من عناوين أودّ لعينيّ أن تأتيا عليها بسرعة فتلتهماها وتنتهيا منها. 
ثمّة مواقع ونصّاح (كوتش) يعلّموننا كيفية القراءة بسرعة، بحيث نُنهي كتبا ضخمة في ساعات، ذلك أننا، نحن أبناء الكرة الدائرة أبدا، بتنا متعجّلين مسرعين، لا وقت لدينا للقراءة المتمدّدة المتراخية التي تلتهم الساعات والأيام من دون أرقٍ أو حساب. اقتصاد الوقت هو هوسنا الجديد: كيف تنجز أكثرية المهام في وقت ضيق، كيف تضغط حياتك وتشذبها وتقصّ الفائض والزائد فيها لتصبح بحجم علبةٍ صغيرةٍ ترميها في جيب. وأيضا، كيف تقرأ أكبر عدد من الكتب في وقت قصير. ثمّة قرّاء ينشرون أرقاما مقلقة عن عدد الكتب التي قرأوها خلال العام. مقلقة بمقياسي الذاتي غير الموضوعي ألبتة. فأنا لا يمكنني القفز من كتابٍ إلى آخر بسهولة، خصوصا عندما يستوقفني ما قرأت أو يعلق أثرُه بي. لا بدّ من أثرٍ يعلق لكتابٍ جيّد تسكن بعضُ تفاصيله رأسّك، تقضّ مضجعك أو تُشعرك بالشبع والامتلاء إلى حين، بحيث تمتنع عن التهام وجبات أخرى مهما كانت مشهّية، فالأدب الجيّد لا يكون ساكنا، بل هو متحرّكٌ يغادر ورق الصفحات ليتمدّد ويتّسع، شأن غلالةٍ تتعاظم حتى تجد نفسك سائرا داخلها.  
أجل، الكتاب الجيّد يبقى يتّسع ويتمدّد في داخلك كلّما ابتعدت عنه، وهو ما يُجبرك على الإبطاء لكي تستمتع وتستوعب وتهضم. على العمل الجميل أن ينتقع في داخلك، أن يأخذ وقته بالتحلّل والتحوّل سمادًا يختلط بتربة روحك ويُثريها بما ينقصها من معادن وأملاح. من جانبي، هناك أيضا ربما بطءٌ في القراءة، لأن الذاكرة باتت انتقائية ولا تحفظ الكثير، أعترف، أو أنها ما عادت ترغب بحفظ الكثير في مسعاها إلى القدر الأكبر من التلذّذ والاستمتاع، احتراما للنصّ الكبير، وتقديرا لجهود الكاتب، ووعيا بما صرفه من ساعاتٍ في انتقاء هذه الكلمة أو تلك...
على الهامش: كتابان تباطأتُ في قراءتهما أخيرًا كما أُحبّ، وهما يستحقّان الكلام بأكثر وأفضل مما سيرد عنهما في هذي العجالة. إنهما رواية "احتضار الفَرَس" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2022) للسوريّ خليل صويلح، وكتاب "غرفة المسافرين" (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2020) للمصريّ عزّت القمحاوي. الكتابان ينتميان إلى عالمين مختلفين، إلا أنّ قصة ترحال وسفر تجمع بينهما، جعلتني أنتقل من الواحد إلى الآخر دونما استراحة أو شعور بمزاحمة أو تنافر. يحكي الأول قصة رحلة يقوم بها صحافي يجتاز حرائق بلاده المشتعلة وخرابها متوجّها إلى دفن أمّه التي لم يرها منذ سنوات، قبل أن يعود في رحلةٍ معاكسةٍ من الحسكة إلى دمشق، ليلتقي بشخصياتها المثلومة المشظّاة مثل مرايا مكسّرة. وأما الثاني فهو سبر لمعاني السفر في الأدب وفي الواقع، وتأمّلٌ شجيُّ في معنى السياحة اليوم، حيث "سيقف السائح الياباني الأخير على الربوة التي تطل على آخر قرية فقدت بكارتها، يزفر زفرة حزنه الأخيرة، ويُلقي بكاميرته في الوادي السحيق...". ثمّة في الكتابين سبرٌ لمعنى التهلكة والقيامة، قيامة بلاد منتهَكة وقيامة كوكبٍ منتهَك، وهو معنى يرتبط بعلاقة وثيقة مع مبدأ البطء. فالحِداد، لاكتماله، يحتاج زمنا لا يُمليه سوى الوقت. وكذلك الرحلة التي يلزمها، لكي تكتمل، أن تعايش المكان بطبقاته وأبعاده المختلفة.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"