في فشل الليبرالية الجديدة وصعود اليمين العنصري

14 يونيو 2024
+ الخط -

أصبح اليمين القوّة السياسية الثانية في عدة دول أوروبية؛ ولكنه تراجع في السويد والدنمارك وفنلندا، وتقدّم في إيطاليا، وفي فرنسا وألمانيا تعدّت أرقام المؤيدين له المؤيدين لكل من الرئيس ماكرون والمستشار شولتز؛ وإذ أعلن ماكرون ما يشبه النفير، وأن البلاد أصبحت بين أن يحكُمها العنصريون أو الديمقراطيون، وحلّ البرلمان ودعا إلى انتخابات تشريعية، في الأسابيع المقبلة، قاصداً الوصول إلى أوسع تحالف بين المحافظين والاشتراكيين والليبراليين وربما اليسار، فإن اليمين العنصري، أو المتطرّف فرض نفسه على أوروبا، وسيتمثّل إمّا في كثير من الحكومات الأوروبية أو سيشكّل كتلة مؤثرة في قراراته، وفي فرنسا بالتأكيد، وفي البرلمان الأوروبي، سيكون قادراً على تعطيل أيّة قرارات تتساهل مع استقبال المهاجرين واللاجئين، وسيعزّز من قوانين الأمن، وهو يرفض الدعم الكبير لأوكرانيا، وأقسام منه تجد في بوتين مثالاً لها، وسيعمل على تعطيل برامج الاتحاد الأوروبي بخصوص الطاقة الخضراء والعودة إلى الطاقة الأحفورية.

ما لا يجوز تهميشُه هو الخلافات بين أحزاب اليمين المتطرّف، وهذا يعني أنّها ليست على سياسة واحدة؛ فبعضها يفضل الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ويضع الهوية القومية في مقدمة خياراته السياسية. ولدى بعض آخر شيء من التردد تجاه الاتحاد الأوروبي. وتُعتبر كتلة معتبرَة محافظة بالمعنيين، الثقافي والاقتصادي، ومنها من يؤيد أميركا، وبعضها يؤيد روسيا. ما يجمع كل هذه التيارات، كما تذكر تقارير صحافية، العداء تجاه المهاجرين، عرباً ومسلمين، وأفارقة، ولاتين، وتميل أغلبيّتها إلى معاداة حقوق النساء والأقليات والمثليين.

جاء محلّلون على تبنّي الأحزاب التي تقود دولاً أوروبية كثيرة بعض أفكار اليمين العنصري هذا، وأن ذلك التبنّي، في العقود السابقة، كان سبباً في أن يصبح هذا اليمين القوّة الثانية في أوروبا، كالتشدّد ضد المهاجرين، وتبنّي سياسات الهوية، والتمييز ضد من ليس أوروبياً، عرباً أو مسلمين. الأسئلة التي لا تُطرح: لماذا تبنّى الاشتراكيون والليبراليون والمحافظون بعض سياسات اليمين العنصري؟ ولماذا لم يتمسّكوا بسياساتهم الما فوق قومية، والكونية، واستناداً إلى قيم الحداثة، والمواطنة، وتعزيز قيم العدالة والمساواة؟ ثم ألا يكمن الفشل في عدم القدرة على الاستمرار بسياساتٍ كهذه، وبالتالي، كان الصعود التدريجي طبيعيّاً لقوى هذا اليمين!

وصول اليمين "الجذري" إلى الحكم في أوروبا دلالة كبرى على أزمة عميقة في النظام الرأسمالي

ارتاحت البشرية طويلاً بعد هزيمة الفاشية والنازية في منتصف الاربعينيات، فقد برزت هاتان الفئتان بعد أزمة اقتصادية كبيرة في كل من إيطاليا وألمانيا، وبعد تحجيمٍ كبيرٍ للدور العالمي لهما، ويُشبِّهُ الآن محلّلون كثيرون صعود اليمين المتطرّف الحالي، بأجواء الثلاثينيات من القرن العشرين. وبالتالي، هناك تهديد حقيقي للديمقراطية، كما أشار الرئيس الفرنسي ماكرون، وكما يتخوّف قادة أوروبيون، والأحزاب الحاكمة واليسار. رافق اندحار اليمين في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، ظهور دولة الرفاه والتعاون بين رأس المال والعمّال، وإلى منتصف الثمانينيات وبعدها، تعزّزت السياسات الليبرالية الجديدة والعولمة، وبدأ التخلّي التدريجي عن كثير من الحقوق للطبقات العمّالية ولعامة الناس، وترافق ذلك مع تفكّك الاتحاد السوفييتي وعودة الدول القومية فيه، وفي يوغسلافيا وفي تشيكوسلوفاكيا، وصارت دولتان، التشيك وسلوفاكيا. وإثر ذلك، ومع تبيّن أن الليبرالية الجديدة ليست خياراً إنقاذياً من الركود والتضخّم وقد تجدّدا، فكانت الأزمة المالية 2008، ولم تتجاوزها أوروبا وأميركا بشكل كافٍ، وكادت هذه الأزمة أن تتجدّد مع إفلاس بنوك أميركية وأوروبية عديدة في 2023، وبدايات 2024.

برز اليمين الأقصى الشعبوي مع فشل اللبرالية الجديدة، لكنه لم يُصبح ظاهرة سياسية وازنة إلّا مع انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً، علماً أن أكثر من تجربة سبقت الانتصار الأخير، حيث وصل إلى الحكم في النمسا 2000، ولاحقاً في هنغاريا، وبولندا وإيطاليا.

إذاً، لم يعد اليمين الأقصى هامشياً، والمشكلة أنّه يترافق مع ضعفٍ كبير للولايات المتّحدة على صعيد الهيمنة على العالم، وبروز روسيا والصين والهند وسواها، دولاً صاعدة وساعية إلى الهيمنة. يشعر اليمين العنصري الأوروبي بضعف بلاده بالمقارنة مع الدول سابقة الذكر، وأن أوروبا تستحقّ أن تكون قوية، وقادرة على الاستقلال بنفسها، وليس التبعية لأميركا، سيما أن الأخيرة أعلنت مع ترامب، سياسة أميركا أولاً، وتعلن قوى اليمين هذا أيضاً، وفي كل بلد توجد فيه أنّها معنية بالنهوض بدولتها الخاصة "أولاً". وقد أكد ذلك زعيم النمسا في عام 2000، ويبدو أن زعيمي إيطاليا وفرنسا وسواهما يتجّهون إلى الأولويات ذاتها، ولكن ورغم الخلافات بين قوى اليمين، وأشرنا لبعضها، ستتعزز قيم الهوية الوطنية والعرقية أكثر فأكثر ومناهضة الأجانب والمختلفين دينياً، وهذا ما تتبناه أغلبية الدول، أميركا، روسيا، الصين، الهند.

لم يعد اليمين الأقصى هامشياً، والمشكلة أنّه يترافق مع ضعفٍ كبير للولايات المتحدة على صعيد الهيمنة على العالم

وصول اليمين "الجذري" إلى الحكم في أوروبا دلالة كبرى على أزمة عميقة في النظام الرأسمالي، فهل يمكن أن تعود السياسات الفاشية والنازية والعسكريتارية؟ الخطر هنا إذاً، الخطر على الدواخل الأوروبية وعلى العالم برمته، كما الحال في كل الدول التي تتبنّى سياساتٍ قائمة على الهوية العرقية الواحدة، والتنافس العسكري، ومحاربة الاتجاهات السياسية اليسارية والتعددية. إن تراجع دور المؤسسات الدولية، في التخفيف من أزمات العالم، وفي مقدّمتها أوكرانيا وغزّة وتايوان وسواها، يتضمّن قدراً من الإفلاس الكبير لهذه المؤسّسات وتراجعاً عن التعاون بين الدول المختلفة من أجل التخفيف من الأزمات العالمية؛ إن الخلاف بين روسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا يكاد يوصل العالم إلى الحرب النووية، والتي كانت قبل عقود من المحرّمات.

من الخطأ التهويل بخطر القوى الأوروبية الثانية في اللحظة الراهنة، وربما قد تتبنّى بعض سياسات الأحزاب الحاكمة حالياً، حينما تصبح في السلطة، وتستطيع الأحزاب الحاكمة الاستمرار في الحكم، وسيكون لها الدور المركزي في سياسات الاتحاد الأوروبي، ولنقل لن تتمكّن كتلة اليمين الأقصى من فرض سياساتها، ونضيف هنا، تثمين أهمية بروز رأي عام أميركي وأوروبي واسع مناهض لدولة الاحتلال في فلسطين، ولسياسات كل من الأحزاب الحاكمة واليمين العنصري، وهذا هام، والسؤال هل ستتمكّن الأحزاب الحاكمة، المحافظون والليبراليون واليسار من تهميش اليمين العنصري الصاعد، وتوسيع قاعدتها الشعبية من جديد؟ وهل ما فعله ماكرون بداية ذلك؟

يقتضي التساؤل الأخير سياسات جديدة، عالمية ومحلية، وتجاه كل الأزمات المفتوحة في العالم، ولصالح الأكثرية الشعبية وانطلاقاً من قيم العدالة والمساواة والحرية وتحجيماً لسياسات الهوية وتفكيك المجتمعات؛ هنا الرهان، وسوى ذلك، سيستفيد اليمين من الأزمات الحادّة في الدواخل الأوروبية "عدم الثقة بالنظام الديمقراطي، التضخم، ابتعاد الطبقة العاملة عن التصويت، الركود والتضخم والبطالة، وضعف دور أوروبا بالمقارنة مع روسيا وأميركا والصين، وسواها". وبالتالي، وفي حال بقاء الأوضاع كما هي حالياً، فإن أحزاب اليمين العنصري ستكون الأولى وليست الثانية في الأعوام المقبلة، وستتكرّر تجربة إيطاليا في الدول الغربية.