في عيد "غوغل"
ليس ثمّة شططٌ في الزعم إن العالم بعد "غوغل" ليس كما قبله. ولذلك يصبح الاحتفاء (أو الاحتفال) بالعيد الثالث والعشرين لميلاد أنشط محرّكات البحث وأشهرها وأغناها في شبكة الإنترنت، وقد صادف يوم أمس، مستحقّا، أو أقله مناسبةً طيبةً لتزجية تحيةٍ إلى الشابيْن الأميركيين، لاري بيدج وسيرغي برين، طالبي الدراسات العليا، في حينه، في جامعة ستانفورد (الأميركية)، واللذيْن أمكنهما، في غرفتهما في المسكن الجامعي، أن يصمّما "غوغل"، في بواكير أولى، بطموحاتٍ واعدة، وصلت إلى إشهار الشركة الشهيرة، والتي تفيدنا مواقع إلكترونية، ييسّر "غوغل" العثور عليها، بأنها تضم 60 ألف موظف في 50 دولة، بعد أول مكتبٍ لها في كراج (جراج بحسب كتابةٍ أخرى) سياراتٍ في كاليفورنيا، كانت تملكه الموظفة الـ16 في الشركة، والتي صارت لاحقا الرئيسة التنفيذية لشركة "يوتيوب". (ذاع أن ستيف جوبز أسّس شركة "أبل"، في أولى مشاريعها وأفكارها، في كراج العائلة التي تبنّته). وعندما نعرف أن ملياراتٍ من عمليات البحث تجولُ في "غوغل" يوميا في نحو 150 لغة فذلك يعرّفنا، في الوقت نفسه، بمدى ما بلغته الثورة المهولة التي أحدثها محرّك البحث الشهير، سيما بعد إنتاجه مئات البرامج والمنتجات الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية. والثورة هذه لم يستفد منها أهل البحث والدرس والأكاديميا فحسب، وإنما كل فردٍ في الأرض، أيا كان قسطُه من التعليم، يعرف القراءة والكتابة، ويمتلك حاسوبا، أيا كانت جودته، أو هاتفا ذكيا، ليعرف درجة الحرارة في عاصمة أرمينيا، أو سعر الريال اليمني مقابل الدينار البحريني، أو سنة ميلاد فريد شوقي، أو أسماء الشوارع في الفجيرة، أو خريطة الوصول إلى مطعمٍ في المكسيك .. بإيجاز، يضع "غوغل" العالم كله بين يديك، وبلا كلفةٍ أو عنَت، بل بمتعةٍ وبهجةٍ في أحيان غير قليلة.
ما أحدثه موقع البحث هذا، (إلى جانب بعض غيرِه) موصولٌ بما أنجزته شبكة الإنترنت من تأثيراتٍ عميقةٍ في راهن الإنسان المعاصر الذي لم يعد في وسعه الاستغناء عن الهاتف النّقال، بخدمات التواصل الغزيرة فيه، وباليُسر الذي يحوزُه لتأمين خدماتٍ بلا عددٍ في عيشه وإدارة شؤونه الخاصة. ولكأن شيئا من مصباح علاء الدين في قصص الخيال الشائقة، (ثمّة من أضافها إلى "ألف ليلة وليلة") يحضُر قدّامك، ساعة تشاء، وبسرعة. لم يكن هذا قبل أقل من ثلاثة عقود في متصوّر مدركات الإنسان ومخياله. ولفرط الحضور الباهظ للإنترنت في هاتفك النقال وحاسوبك، في حياتك الخاصة، فإنك، إن كنتَ من المخضرمين الذين عايشوا زمن ما قبل تكنولوجيات المعرفة والاتصال والتواصل هذه، ستحيّرك أسئلةٌ بصدد ما كانت عليه إيقاعات حياتِك قبل مصابيح علاء الدين التي بين ظهرانيك، وفي أيدي أفراد أسرتك، وفي كل مكان تمرّ به أو تعبر إليه أو تمكُث فيه. .. يا له من سؤال: كيف كنا نعيش قبل الإنترنت وفيسبوك وغوغل وتويتر؟
لا يظن صاحب هذه الكلمات نفسَه "يشيل الزير من البير"، وهو يكتب هنا عن الذي صِرنا عليه، في زمن "غوغل"، ولا عندما يشفق على الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان (توفي في 1980)، الذي أبهرته وسائل الاتصال في زمنه، وكذا وكالات الأنباء النشطة، لمّا قال إن العالم أصبح بفعلها "قريةً صغيرة"، فيما هو الآن أصغر من "غرفة صغيرة"، فمن تقليدي الأمور وعاديّها أن يُشار، في غضونٍ كلامٍ كهذا، إلى أنه لم يعد في الوُسع أن يُستغنى عن هذا الموقع (غوغل) الذي يوصَف بأنه الأكثر شعبية في العالم. غير أن في الوُسع أيضا، بل وجوبا، أن يُقال دائما إن من شنيع الأخطاء أن يُظنّ أننا أصبحنا حقا في "مجتمع المعرفة" بفضل "غوغل" وشبكة الإنترنت. في هذا القول بعض التزيّد، ونقصانٌ في الدقة. لأن جهدا شديد الإلحاح يبقى مطلوبا لفحصٍ دؤوبٍ وعلمي، وكثير المهنية، لفيض المعلومات التي تبسُطها محرّكات البحث، في غير قضيةٍ ومسألةٍ وشأنٍ وموضوع. ولعلها الغربلة ورمي البائس والسقيم، وكذا الإفادة من الجدّي والمتوفر على القيمة العلمية، من أولى متطلباتٍ لازمةٍ عند الغرق في بحار المعلومات. والأنسب دائما أن يبقى التعاطي مع "غوغل"، ومثيلاته، قنواتٍ وطرقا ومعابر إلى المعلومات، لا اعتباره موطن المعرفة نفسها بالضرورة. وعندما ييسّر لك هذا المرفق الحيوي والنشط خدمة الاطّلاع مباشرة على الكتاب الفلاني أو على تلك المجلة العلمية المتخصّصة أو غيرهما من مصادر أصلية للمعرفة، فإنه ينبئك إن الأصول والمظانّ المؤكّدة هي منابت العلم، وليس غيرها. وفي هذا كلامٌ كثير. ..
شكرا لاري بيدج وسيرغي برين.