في علم الضحك
غيّب الموت، قبل أسبوعين، المصري أستاذ الجماليات وعلم نفس الإبداع، شاكر عبد الحميد، مصابا بكورونا، عن 69 عاما. عُرف ناقدا وباحثا ثقيل السوية في التذوق الفني، وأستاذا جامعيا، وعميدا للمعهد العالي للنقد الفني، ووزيرا للثقافة خمسة شهور بعيْد ثورة يناير. أما المُراد هنا، في تلويحة التقدير هذه لشخصه وعطائه، فهو التنويه بواحدٍ من كتبه، نادرٍ عربيا في إحاطته بموضوعه، "الفكاهة والضحك .. رؤية جديدة" (سلسلة عالم المعرفة، الكويت، يناير/ كانون الثاني، 2003). ودافع هذا التنويه أن هذا الكتاب يتم فيه، أول مرة (وأخيرة ربما)، في الدرس العربي، اجتماع مختلف النظريات والمقاربات والأطروحات والتصوّرات الفلسفية والسيكولوجية والأدبية والعلمية في موضوع الضحك والفكاهة. وعندما يكتب شاكر عبد الحميد في المقدّمة إنه ليس هناك ما هو أصعب من كتابة كتابٍ جادٍّ عن الضحك، فإنه أصابَ نجاحا ظاهرا في جهده. وإذ يؤشّر إلى ما قد يكون في مؤلّفه هذا من "جفافٍ علمي"، فإنه أمكن له التخفيف من هذا في المواضع التي بسط فيها شواهد أجنبية وعربية على مباحث الكتاب الغزيرة، وأيضا عندما اختلف أو اتفق مع هذا المنظور أو ذاك لهذا الفيلسوف أو ذاك الكاتب. ومن بين مآثر ظاهرةٍ في هذا العمل الأكاديمي أن صاحب "الأدب والجنون" يُخبر قارئه إن هناك أكثر من مائة نظريةٍ عن الضحك، وكلها متداخلة، وتركّز على عوامل معينةٍ تربطها بالضحك أو تربطه بها. لكن هذا القارئ يطوف في الكتاب (516 صفحة) على أزيد من مائة نظريةٍ ومساهمةٍ معرفيةٍ في مسألة الضحك، مما جاء به أفلاطون وأرسطو وبيرغسون والجاحظ وشوبنهور وفرويد وكيركجارد وتوماس هوبز ونيتشه وأبو حيان التوحيدي والعقاد وهربرت سبنسر وهيغل وشليغل وإمبرتو إيكو وباختين وبودلير، وعديدون آخرون، فضلا عن علماء نفس وباحثين وأساتذة جامعات درسوا اجتماعيا وميدانيا جوانب متنوّعة في قضايا الضحك والفكاهة، في الغرب والشرق (أحدهم إسرائيلي درس نكات اليهود في ثلاثة كتب).
وعندما نعرف من الباحث المجدّ، رحمه الله، أن التراكم الوفير في تلك الدراسات والنظريات والتصورات ولّد "علم الضحك" (Gelotology) الذي ظهر في الربع الأخير من القرن العشرين، فإن واحدَنا سيسأل عن الإسهام النظري والمعرفي والميداني في الأكاديميا العربية في هذا العلم، المتّصل بمعارف إنسانية واجتماعية، وأيضا بالفلسفة والسيكولوجيا ونظريات الأدب، وبمساهمات فلاسفةٍ ومفكرين وعلماء كبار. وأظنّه مهما تشديد شاكر عبد الحميد على أن تتكاتف جهود كتّاب وباحثين ونقاد ومفكّرين عرب "لكي نحمي هذا العلم من أن يقع في براثن مشقّة التجاهل، أو في قبضة عاصفة الإهمال". ودافعُه إلى هذا أن "الفكاهة مطلوبةٌ من أجل صحتنا النفسية والجسدية، بل القومية. والضحك مطلوبٌ أيضا، ما دام مناسبا ومهذّبا وراقيا ولائقا وإبداعيا". وقد يبدو ترفا ذهنيا، أو تزيّدا في غير موضعه، استدعاءُ هذه الدعوة من أكاديمي عربي (درّس في جامعاتٍ في مصر والبحرين وعُمان والإمارات)، من زمنها قبل 18 عاما، إلى حيث جبال اليأس والإحباط والكآبة تزداد ارتفاعا في لحظة الخراب العربية الراهنة، غير أن تبصّرا أكثر تحديقا في المشهد العربي هذا سيسوق، على الأرجح، إلى وجوب ما قال به شاكر عبد الحميد.
يأتي في الكتاب إن "الهزل غذاءٌ ودواء" على ما يقول أبو حيان التوحيدي. وإن للفكاهة تاريخا طويلا في الثقافة الإنسانية، ولها وظائفها الاجتماعية والنفسية العديدة، (والعدوانية أيضا). وبالضحك وبها يستطيع الإنسان أن يحيا بشكلٍ أفضل، على ما توضح دراساتٌ علميةٌ حديثة. أما أنه ينشّط الجهاز المناعي ويقلل من احتمالات الإصابة بالأزمات القلبية، فذلكم (وغيره) مما هو عضوي، فيما أدوار الضحك ووظائفه تتجاوز هذا، في المجتمع، وفي الصلة بالسلطة، وبالخصوم، والمباحثُ في هذا غزيرة. ولعل نيتشه أصاب لمّا قال إن الإنسان ابتكر الضحك لأنه أكثر الكائنات تعاسةً. وأصاب الجاحظ لمّا رأى أن فيه تطيب النفوس. وهو (الضحك) مراتبُ وأنواع، كما الفكاهة (الدفاعية والجنسية والعِرقية و..)، كما الحماقة والمفارقة والكوميديا والظرف والدعابة والتهكم والنكتة والسخرية والتورية و.. وغير ذلك من أنواع وأجناس ومفاهيم، اختصّت بكل منها مقارباتٌ وفيرة، جال عليها شاكر عبد الحميد، وأضاف، وعقّب، وأفادنا عنها في كتابٍ أنيق، جاد، احتجتُ قراءته ثانيةً ما أن أصابتني غلالة الأسى إياه، لمّا صادفت نبأ وفاة كاتبه بالفيروس التاجي.