في ضرورة موقع "ذاكرة فلسطين"

31 يناير 2023
+ الخط -

صدقَ كثيرا قولُ من قال، قبل أكثر من عقد، إنك موجودٌ، صاحبَ إنتاجٍ معرفيٍّ وثقافيٍّ وإبداعي، بقدر ما أنت موجودٌ في شبكة الإنترنت. ... صار من بديهيّ البديهيّات أن فاعليتك، بل وحضورك قبلها وبعدها، صاحب رأيٍ أو قضية، لا تُقاس فقط بالحيز الذي تنشط فيه في وسائط المعرفة والاتصال والإعلام الشفهي والتقليدي، وإنما أيضا، بالضرورة والوجوب، تُقاس بالمقادير التي تُحرزها في فضاء الشبكة العنكبوتية الفادح الاتّساع. وفلسطين، راهنا وماضيا ومستقبلا، وطنا وشعبا، قضية تحرّرٍ وسؤالا في الوعي الإنساني العام، وعلى تعدّد أبعادها وتنوّع سطوحها وطبقاتها، تخسر كثيرا إذا لم ينخرط مناضلوها ومثقفوها ونخبها، بل كلّ صاحب شأن يتعلق بناسِها وتاريخها وحاضِرها، بكفاءةٍ ومواظبةٍ ومثابرة، في حضورٍ قويٍّ في الملعب الرقمي الفسيح، في التطبيقات والمواقع والحسابات وغير ذلك من تكنولوجيات الإنترنت. ولعل واحدةً من أهم مزايا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن إداراته والقائمين عليه أدركوا تماما، ومنذ اليوم الأول لإطلاقه قبل 12 عاما، الأهمية البالغة الجوهرية والحيوية لوجوده، ولحضور كل منتوجاته على الشبكة، ليس بالعربية فقط، بل بالإنجليزية أيضا في كثيرٍ منه. ولم يكتف بهذا الأمر الذي اتصف فيه بمهنية وحرفية عاليتَين، وإنما تولّى إطلاق مبادراتٍ رقميةٍ تلو أخرى في مساره المعرفي والثقافي الذي تولّاه.
بعد إطلاقه، في يونيو/ حزيران 2022، موقع قصة القدس (https://www.jerusalemstory.com/en) وهو باللغة الإنكليزية، أعلن المركز العربي، في واحدةٍ من جلسات المنتدى السنوي لفلسطين، عن إشهار موقع "ذاكرة فلسطين" (palestinememory.org) في مرحلته الأولى، وليكون، في الطموح الذي يتوخّاه، ضمن مشروع توثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي، مساهمةً في بناء قاعدة بياناتٍ رقميةٍ، تحفظ أراشيف كياناتٍ وهيئاتٍ سياسية، وجمعياتٍ محلية، ومجموعاتٍ شخصية، وأوراقا عائلية، على ما يوضح الموقع عن نفسه. ولئن قال من قد يقول إن الموضوع الفلسطيني شهد نوعا من الطفرة في إنشاء مواقع إلكترونية لكلّ منها محتواه الخاص به في الحقل الذي يعتني به، فيسأل عمّ سيختلف به "ذاكرة فلسطين" عن غيره، وعمّ يضيفه إليها، وما يمايزها عنه، فإن الإجابة، ببساطة، إن كل عمل من أجل فلسطين في شبكة الإنترنت محمود، ويحسُن دعمُه وتشجيعُه، وكلٌّ يعمل ويُنجز حسب طاقته وإمكاناته. وبالفعل، هناك جهودٌ لشبّانٍ طموحين ومثابرين في هذا الخصوص تستحقّ الثناء عليها. ولم يدّع القائمون على الموقع الجديد إنهم يزاحمون أحدا، وبذلك كلها جهودٌ طيبةٌ تتكامل، وتقدّم للجمهور العام ما تقدّمه، غير أن في الوسع أن يمحض واحدُنا إعجابا خاصا بالجهد الكبير حقّاً الذي أدّاه الباحثون والإداريون والتقنيون في بناء "ذاكرة فلسطين"، ومنهم الباحث الجادّ والنشط، بلال شلش، وبإدارة مثابرة للمشرف على مشروع توثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي، معين الطاهر، وذلك بالنظر إلى كثافة المواد التي يتضمنّها الموقع، وهي موادّ، في كل الأحوال، غير مكتملة، وأنّى لها أن تكتمل، فالموقع يبقى يتغذّى، في مختلف مراحله، بالموادّ التي يبحث عنها، وفيها، ويزوّده فيها خبراء ومختصّون وعارفون وباحثون وجغرافيون ومؤرّخون وغيرُهم، ذلك أن هذا المشروع، في جوهره، مفتوحٌ، لكنه، في الوقت نفسه، ينتظم ضمن رؤيةٍ علميةٍ في سيرورة التوثيق والحفظ والفهرسة والتبويب والتعريف بكل ما فيه، فالأرشفة، بداهةً، عملية تأريخ وشغلٌ منهجي ليس اعتباطيا أبدا.
أن يذهب عنوان هذه المقالة إلى "ضرورة" الموقع الإلكتروني، "ذاكرة فلسطين"، فهذا يعني، أولا وقبل كل شيء، أنه عملٌ لا يجوز عدم الإفادة منه والبناء عليه توفيرُ الموقع في مرحلته الحالية، وهي الأولى، 17 ألف مادّة، في مجموعاتٍ خاصةٍ وأدبياتٍ ووثائق وصحف ومجلات وشهادات وروايات شفوية ومدوّنة وسجلات، وغيرها، وذلك بخصوص أعلامٍ وأمكنةٍ وشخصياتٍ ومنظماتٍ سياسيةٍ فلسطينية وغير ذلك الكثير. والضرورة هنا باديةٌ في يسر الوصول إلى كلّ هذه المجاميع المعلوماتية، والتي تصبّ كلها في حماية ذاكرة فلسطين وناسها وتاريخها وسيرورة صمود أهلها ونضالهم في وطنهم لمّا بنوا مؤسّساتٍ وحقّقوا حضورهم المجتمعي والثقافي والعلمي في محطّاتٍ عديدة، راكم فيها الفلسطينيون عطاءاتٍ في غير شأن وشأن.
أوجزت هذه المقالة ما لا يجوز إيجازُه، فالعمل الدؤوب والبديع الذي أدّاه من أنجزوا موقع "ذاكرة فلسطيني" ثقيلُ القيمة، وزيارة الموقع والتجوالُ فيه أنفع، بداهةً، من الاكتفاء بالإيجاز المخلّ أعلاه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.