في سيناريوهات تفاعل ترامب مع ملفّات مشتعلة

08 ديسمبر 2024
+ الخط -

سيظلّ الرئيس جو بايدن من أكثر الرؤساء الجدليين في تاريخ الولايات المتحدة، وأحد أقل الرؤساء تقديراً، قياساً بمسيرته الممتدة أكثر من نصف قرن، وأكثر السياسيين "معافرة" في الوصول إلى كرسي السلطة، في البيت الأبيض الذي جلس فيه في عمر الثمانين. وبطبيعة الحال ستمتد المقارنات بينه وبين دونالد ترامب أربعة أعوام مقبلة، وستظل بعض الحقائق ثابتة في سفر الرجل، من قبيل أنه ابن المؤسّسة البيروقراطية، وأنه حافظ على التقاليد الأميركية، وأعاد الولايات المتحدة إلى مكانتها في السياسات الخارجية، من خلال المحافظة على الهيمنة العالمية، وتثبيت التحالفات الخارجية، مع الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، وتحالف "الإندو- باسيفيك"، وأعاد طمأنة الحلفاء التقليديين بأن الولايات المتحدة ما تزال معهم.

وسيُحسب عليه أيضاً أنه الرئيس الأميركي الذي ارتُبكت في عهده أكبر جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث؛ الحرب الإسرائيلية على غزّة، وأنه الرئيس الأميركي الذي زار إسرائيل في أشدّ لحظاتها انغماساً في الحرب، وهو الرئيس الذي صرّح بأنه "لا يجب أن تكون يهودياً حتى تكون صهيونياً"، وكذلك فعل وزير خارجيته بلينكن، وأنه كان دمية بيد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وأنه أخذ المواجهات مع روسيا إلى حدود الحرب النووية، وكان من بين القلائل من الرؤساء الأميركيين الذين فُرض عليهم الانسحاب من الترشّح لدورة رئاسية ثانية.

وبعد هذه التوطئة يظلّ سؤال التاريخ قائماً وبصيغتين مختلفتين. ما الذي أبقاه بايدن لترامب؟ أو ما الذي أورثه بايدن لترامب؟

تستلزم الإجابة عن هذا السؤال المركب تحليل محورين مهمين، الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط الملتهب والمليء بالصراعات والحسابات المعقدة. وهذان المحوران هما التركة الثقيلة التي أورثها بايدن لخليفته. أي أن مسألة الاختلاف بين الرجلين ستظل حاضرة في إدارة الملفات الخارجية، والسياسات المتبعة لحفظ الهيمنة الأميركية على العالم في المدى الاستراتيجي، وهذا ما استدعى كتابة هذه المقالة.

إبّان فترة السباق الرئاسي، قدّم ترامب الشرق الأوسط بصراعاته الناشبة والمعقدة واحداً من الشواهد على إخفاقات الإدارة الديمقراطية التي مثلها الرئيس بايدن، ووعد بإنهاء الحرب هناك في بداية فترته الرئاسية في 20 الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني) لصالح إسرائيل بالطبع. لكن الواقع أنه، وخلال ذهابه إلى البيت الأبيض في 24 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) ضيفاً على بايدن، بعد إعلان فوزه بالانتخابات، تحدّثت صحف أميركية أنه طلب من بايدن إنهاء الحرب في لبنان قبل مجيئه إلى السلطة وقد كان، وأن له يداً كبيرة ومؤثرة في اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، وهو بذلك يحذو حذو الرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي تعاون مع الرئيس جيمي كارتر في معالجة أزمة الرهائن الأميركيين الذين جرى احتجازهم في أحداث الثورة الإيرانية عام 1979 قبل مباشرة أعماله في البيت الأبيض، بخلاف أن ترامب اعتمد على المؤسسة ذاتها التي أعدت لريغان برنامج الحكم، مؤسّسة "the Heritage Foundation". وبخلاف الظروف العملياتية، والمكاسب الاستراتيجية التي جعلت إسرائيل تقبل بوقف إطلاق النار مع حزب الله، من الواضح أن ترامب حريصٌ على أن تشهد بداية فترته تحقيق بعض الوعود الانتخابية الخاصة بإخماد الصراعات الناشبة، وإعادة الاستقرار في المجتمع الدولي المضطرب، والتفرّغ لملف الاقتصاد ببعديه؛ الداخلي المتصل بمعيشة المواطن الأميركي، والخارجي المتعلق بإضعاف المنافسين، وفي مقدمتهم الصين، والحفاظ على المكانة الأميركية.

هناك نوع من التوافق النفسي والفلسفي بين ترامب وبوتين

والجليّ أن تكوين الرجل الفكري والنفسي، ومزاجيته المتسقة مع مزاج الشارع الأميركي، يجعله يبدو أكثر حسماً من بايدن المتردّد والمقيد بالتقليد البيروقراطي، أو ما يسميه بعضهم توجهات الدولة العميقة المتمثلة بالبعد الاستراتيجي الأميركي، فعلى العكس، يميل ترامب إلى منهج الصفقات والربح السريع، وذلك النهج، وإن كان له مكاسب آنية، إلا أنه يتعارض مع الرؤية الأميركية الاستراتيجية، وهذا يجعل من ترامب مرغوباً أكثر من الحلفاء والخصوم على حد سواء، مع وجود مخاوف لدى الخصوم، من تقلباته المزاجيه، لكنه حتى اللحظة يتماشى مع رغبة المواطن الأميركي الذي يفضّل الشخصية الحاسمة المعبرة عن قوة الإدارة الأميركية، من دون اهتمام بالمستقبل البعيد، وما يمكن أن يأتي به هذا التوجه من مهدّدات استراتيجية جعلت بعضهم يقول إن العهد "الترامبي" الحالي سيسرّع من نهاية الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم الممتدّة منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بداية تسعينيات القرن الماضي.

وأياً يكن ما يدور في عقل ترامب، ما زال الشرق الأوسط بصراعاته الناشبة، وتعقيداتها وتشابكاتها الإقليمية والدولية، أحد أبرز التحدّيات التي تواجهه وفريقه، وقد تستمر معه طوال فترته الرئاسية، بل إنها قد تتعقد أكثر، خصوصاً إذا ما أبدى الرجل تحيزاً كبيراً تجاه إسرائيل مثلما تتخوّف أطراف كثيرة في المنطقة وتتهيّأ لذلك السيناريو الأسود.

وتعتمد معظم التحليلات والتصورات لفهم الكيفية التي يسعى من خلالها ترامب على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، على محدّدات عديدة: أولها تصريحه الشهير في أحد المهرجانات الجماهيرية لحملته الانتخابية، إنه سينهي الحرب الروسية الأوكرانية في أول أيامه في البيت الأبيض، والواقع أن هذا الشاهد يصطدم مع حقيقتين: الأولى، قاعدة ثابتة في العرف السياسي الأميركي، فحواها قل ما تشاء وأنت خارج السلطة، لكن الأمر عندما تصل إلى البيت الأبيض وتتسلم مفاتيحه مختلف، فهناك حقائق تفرض نفسها. والثانية أن منطق الحروب والسياسية والتحالفات لا يتوافق عادة مع الوعود غير الملزمة دستورياً التي تطلق في حفلة النشوة الانتخابية لاستمالة عاطفة الناخبين.

تكوين ترامب الفكري والنفسي، ومزاجيته المتسقة مع مزاج الشارع الأميركي، يجعله يبدو أكثر حسماً من بايدن المتردّد والمقيد بالتقليد البيروقراطي

والمحدد الثاني أن هناك نوعاً من التوافق النفسي والفلسفي بين ترامب وبوتين، وهذا التوافق المدعوم بتوجّه ترامب لتقليل الإنفاق على أوكرانيا سيساعد الرجلين على الوصول إلى صفقة مقبولة للطرفين تنهي الحرب. ولكن هذا المحدّد يغفل أن الطموح الروسي المتحكّم بعقل الرئيس بوتين جعله يرى أن الحرب في أوكرانيا ما هي إلا نقطة البداية الجوهرية في تحقيق مشروع النظام العالمي الجديد، الهادف إلى إنهاء القطبية الأحادية الأميركية في الهيمنة على العالم، وهذا يتعارض مع رؤية ترامب في استعادة النفوذ الأميركي المطلق، وإن كان وفق تصوّر مرحلي، أي أن نقطة الالتقاء قد تتحوّل إلى نقطة افتراق. وبالتالي، قد يذهب ترامب إلى مدى أبعد بكثير مما ذهب إليه بايدن في دعم أوكرانيا. ويتماشى هذا المنحى، بالمناسبة، مع التركيبة النفسية المتقلبة لترامب.

تُساق تلك المنطلقات في التحليل المردود عليها مع قراءات تحاول إثبات أن هنالك مسعى تنتهجه إدارة بايدن الديمقراطية لتعقيد خطط إدارة ترامب الجمهوري في عقد أي صفقة محتملة، تنهي الصراع في أوكرانيا بطريقةٍ قد لا تراعي المصلحة الاستراتيجية الأميركية. تستشهد هذه القراءات بالتطورات المتسارعة أخيراً في سورية، ويعتقد أصحابها وفق هذا المنطق أنها إذا لم تكن مدعومة أميركياً فهي بالضرورة تحوز رضاها. ويلامس هذا التحليل قلب الحقيقة فيما يخص سورية، إضافة إلى حرص بايدن وإدارته على تقديم كل التعهدات المالية والعسكرية لأوكرانيا قبل مغادرته البيت الأبيض.

في الأخير، ما هو ثابت أن محاولات التفريق بين كل العهود والتوجهات والإدارات الأميركية، ديمقراطية أم جمهورية، هو أن الولايات المتحدة تأسست على حلم جامح صدق نفسه، وسياسة متسقة في الثوابت مختلفة في الآليات، فالهيمنة ثابت، وإسرائيل ثابت، إلا أن الثابت، في صيرورة الوجود، أن لكل شيء نهاية والهيمنة الأميركية شيء له نهاية، مهما تعمّرت وتأخّرت.