في سيناريوهات الأزمة الأوكرانية .. الحرب والفوضى
منذ ألمح حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى أنه يدرس ضم أوكرانيا إليه، توترت الأجواء في المنطقة، حتى وصلت إلى مشهد احتشاد عشرات آلاف من الجنود والمركبات العسكرية الروسية على طول الحدود مع أوكرانيا، بما شمل قوات الحرس الوطني المكلفة بتوفير خدمات الحرب اللوجستية. ويدرك المتأمل في الأزمة أنّها شديدة الدقة والتعقيد، وهو تعقيدٌ يحاول الأميركيون تجاوزه، حينما يتساءلون ببراءة: ما هي المشكلة في أن تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو؟ وكيف يمكن لروسيا أن تسمح لنفسها بتحديد حدود الحلف؟
ليس الأمر بهذه البساطة، فبالنسبة إلى روسيا لا تعتبر أوكرانيا مجرّد عمق استراتيجي، وإنّما هي خط أحمر فعلي. وإذا كان الاتحاد السوفييتي سمح، في أواخر أيامه، بأن يوحد الألمانيتين، وأن يمنح الكثير من جمهورياته السابقة استقلالها، فقد كان اشترط أن يحافظ الغربيون على أمنه، وأن يعدوا بألّا يتم توسيع الحلف شرقاً، غير أنّ الدول الأطلسية، وفق المنطق الروسي، هي التي أخلّت بهذا التعهد، وسمحت للحلف بأن يتمدّد بشكل مقلق.
خلال الأسابيع الماضية، كان هناك جدل كثيف حول الموضوع. وكان من الواضح أنّ روسيا مستعدّة للذهاب إلى أبعد نقطة من أجل حماية أمنها. وقد بدا المعسكر الغربي، بجميع مكوناته، في خانة العاجز عن اتخاذ قرار، لعدة أسباب، أهمها عدم وجود توافق أو استعداد لحربٍ لا يستطيع أحد أن يعرف كيف ستنتهي.
على الصعيد الأميركي ترى أقلية أنّه يجب الدفاع عن أوكرانيا الحليفة بأيّ ثمن، وترى مجموعات أخرى أنّ هذه معركة غير مفيدة
يجادل الأميركيون بأنّ روسيا نفسها ليست مستعدةً، في الوقت الحالي، لمواجهة قاسية، فحتى لو تحوّل الصراع إلى مجرد حرب باردة أو ضغوط اقتصادية قاسية، فإنّ ذلك سيكون مؤلماً جداً للاقتصاد الذي يعاني حالياً من تراجع. ويجمع الخبراء بالشأن الروسي في المقابل على أنّ المراهنة على ذلك خاطئة، وأنّ تعزيز العقوبات لن يمنع الروس من التدخل العسكري، لأنّ الأولوية آنذاك ستكون للأمن القومي. أما قول بعضهم إنّ العقوبات الجديدة قد تؤدّي إلى ثورة في داخل روسيا أو تغيير في نظامها فيبدو مبالغاً فيه.
الانقسام الأكبر هو على الصعيد الأميركي، فبينما ترى أقلية أنّه يجب الدفاع عن أوكرانيا الحليفة بأيّ ثمن، ترى مجموعات أخرى أنّ هذه معركة غير مفيدة، ويمكن أن تدخل الأميركيين في مشكلاتٍ هم في غنى عنها. الولايات المتحدة المهزومة في أفغانستان، والتي لم تستطع إجبار إيران على اشتراطاتها من أجل العودة إلى الاتفاق النووي، يمكن أن تكون باحثة عن انتصار عسكري لاسترجاع هيبتها، لكنّ المؤكد أنّ الحلبة الأوكرانية ليست المكان المناسب لذلك. واليوم تستشعر روسيا التي تمدّدت في دول أفريقية كثيرة، وأوجدت تحالفات مهمة مع دول كثيرة، أنّها قوية كفاية لفرض شروطها ولتصحيح الأخطاء التي أفضت إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي. المطلب الأول للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اليوم، عدم قبول دول جديدة في حلف الناتو، ونزع المنظومات الأطلسية التي تم وضعها في دول مجاورة، وباتت تهديداً. بالنسبة للغربيين، يبدو الأمر وكأنّ روسيا تطالب بإيجاد منطقة عازلة، أو كأنّها تسعى إلى إعادة عقارب التاريخ إلى حقبة نهاية الثمانينيات. وقد أعاد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، التأكيد على وجهة النظر الروسية، حينما قال، في رسالة إلى وزراء خارجية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، إنّه يجب إيجاد توازن ما بين حرية اختيار التحالفات وحق الدول في تعزيز أمنها وما بين ضمان ألّا يهدد ذلك دولاً أخرى.
لا يزال سيناريو الحرب المباشرة الساعية إلى احتلال أوكرانيا أو لاقتطاع أجزاء منها، كدونباس، غير واقعي
التنازل الروسي مستبعد. لكن يمكن لموسكو أن تستخدم أوراقاً أخرى غير الحرب لتحقيق أهدافها، فإذا استطاعت استبدال الرئيس الأوكراني المعادي زيلينسكي برئيس موالٍ لها، كما هو الحال في معظم الجمهوريات السوفييتية السابقة، فإنّ الأزمة ستنتهي، وكذلك إذا وصلت السلطة الحالية إلى قناعة مفادها بأنّه لن يكون في مقدورها الاستمرار في تحدّي الجار الكبير، خصوصاً بعدما ثبت أنّ الدول الغربية ليست جاهزة لخوض معركة من أجلها، وأنّها، في الغالب، ستتخلى عنها كما فعلت في عام 2014، حينما سمحت لروسيا باستعادة شبه جزيرة القرم.
على الرغم من ذلك، لا يزال سيناريو الحرب المباشرة الساعية إلى احتلال أوكرانيا أو لاقتطاع أجزاء منها، كدونباس، غير واقعي. ولا يستبعد مركز استراتيجيات الدفاع الأوكراني، في تقرير له، أن تكون الحرب المقبلة هجينة، بمعنى أنّها لن تقتصر على الغزو العسكري، وإنّما قد تشمل الهجوم السيبراني وحرب المعلومات والحرب النفسية أيضاً. وأوكرانيا في موقف لا تُحسد عليه، فهي ليست مقبولة أطلسياً، ما يجعل حرص الغرب على ضمان سلامتها واستقلالها محل شكّ، كما أنّها تتبع، في الوقت ذاته، سياسة تحدٍّ ضد جارتها الإقليمية الكبرى. الوضع اليوم أنّها محاصرة من الجبهة الروسية ومن جبهة بيلاروسيا الحليفة لروسيا أيضاً، وهو ما يجعلنا نتوقع حرباً متزامنة على جبهتين. وللمخاوف الأوكرانية ما يبرّرها، فالواضح، على الأقل بالنسبة لدول الغرب الأوروبي، أنّ هذه الدول تسعى إلى حفظ علاقتها مع روسيا، ولا ترى فيها مهدّداً استراتيجياً، قياساً على دول أخرى كالصين، وهو ما عبر عنه قائد البحرية الألمانية، الأميرال شونباخ، حينما اعتبر إبّان تقديم استقالته أنّ الدخول في حربٍ مع روسيا حماقة لأنّها مسيحية.
كانت الأزمة الأوكرانية أحد بنود زيارة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، فتهديد توريد الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية يظلّ من أهم انعكاسات الأزمة، وهو كارثة حقيقية على الدول الأوروبية التي تستورد نصف غازها من روسيا. وعلى الرغم من أنّ دولة قطر من أهم منتجي الغاز العالميين، إلّا أنّ تحولها بديلاً للغاز الروسي ليس أمراً سهلاً، وتكتنفه صعوبات وتعقيدات لوجستية وفنية متعددة، هي التي جعلت النسبة الحالية من الغاز القطري المصدّر إلى أوروبا قليلة جداً.
دول كثيرة تتعامل مع فرضية الحرب بجدّية، خصوصاً بعد استقدام الأميركيين جنوداً ومعدّات وضعتهم في دول الجوار
تشغل الأزمة الأوكرانية أيضاً الدول الإقليمية المهمة كتركيا، ففي لقاء جماهيري عقده الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، في مدينة طرابزون التركية، عبر عن أمله في أن تنتهي الأزمة، موضحاً موقف بلاده التي ترفض الانحياز لأيّ طرف. تسعى تركيا اليوم إلى استغلال علاقتها الطيبة مع الطرفين للتوسط بينهما. والسؤال الأهم يظل المتعلق بمصادر الطاقة، وما إذا كان في الوسع توفر بديل يمكن التعويل عليه لمقابلة الاحتياجات الأوروبية في حال توقفت روسيا عن مدّ زبائنها بالطاقة، وهو أمر وارد في حال نشوب حرب.
هل ستُقدم روسيا على غزو أوكرانيا؟ ما زال السؤال شديد الصعوبة، فلا أحد يمكنه تخمين ما يفكر به الرئيس بوتين، وكما ذكرت مجلة "إيكونومست" في مقال أخيراً، ربما لا يملك وزير الخارجية الروسي نفسه إجابة واثقة في هذا. الأكيد اليوم أنّ دولاً كثيرة تتعامل مع فرضية الحرب بجدّية، خصوصاً بعد استقدام الأميركيين جنوداً ومعدّات وضعتهم في دول الجوار، وهو ما جعل سفارات عديدة تبدأ بإجلاء رعاياها من أوكرانيا.
ينصبّ اليوم التفكير بشأن الأثر العالمي لأيّ توغل روسي، وما سيولده من موجة فوضى، سواء إذا ما تدخلت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، أو حتى لو لم تتدخل، وتركت أوكرانيا لمواجهة مصيرها، لأنّه في الحالة الأخيرة لن نستبعد أحداثاً أخرى، من قبيل اجتياح الصين تايوان أو سعي دول كثيرة إلى حسم خلافاتها الحدودية عن طريق القوة.