"الكدمول"... عن اللباس والحرب في السودان
يسبّب اللثام الذي يرتديه مقاتلون مناصرون للجيش السوداني من أبناء الحركات المسلّحة، المنحدرة من إقليم دارفور (غرب)، بعض الارتباك، فهو يشبه اللثام الذي تظهر به قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عمامة كبيرة ملوّنة تغطي الرقبة كلّها وأغلب الوجه. يسمّى هذا اللثام في السودان (يصنع بأمتار كثيرة من الأقمشة الخاصّة) "الكَدَمول" الذي ارتبط في الأذهان أخيراً بالمتمرّدين، إلى درجة أنّ ارتداءه صار يرمز للانحياز إلى مجموعات "الجنجويد" التي تقاتل الجيش. من أدلة هذا الارتباط قول بعض الداعمين للقوات المسلحة للسياسيين الذين يدافعون عن جرائم المليشيا المتمرّدة ممّن يدّعون الحياد: "لماذا لا ترتدون الكدمول؟"، أي لماذا لا تعلنون انتماءكم الصريح إلى المتمرّدين؟
من هنا وُلِد ذلك الارتباك الذي قصدناه، فوفق كثيرين يجب على المقاتلين في صفّ القوات المسلّحة ألّا يتشبَّهوا بالمتمرّدين في لباسهم، خاصّة أنّ ذلك "الكدمول" أصبح رمزاً لهم. تقول وجهة النظر الأخرى، التي يتبنّاها أولئك المقاتلون الذين يرتدون الكدمول بفخر، إنّه يجب عدمُ الاستسلام لفكرة ربط ذلك اللباس بـ"الجنجويد"، الذين يمثّلون حالياً الشرَّ المطلقَ والتهديد الداهم لأغلب أهل السودان.
يُراهَن على مشاهد أبناء "القوات المشتركة" يقاتلون بشجاعة مرتدين "الكدمول"، في تخفيف عداء السودانيين له
الحركات المسلّحة، التي شكلّت ما يعرف بـ"القوات المشتركة"، وينحدر مقاتلوها في غالبهم من قبيلة الزغاوة التي تتقاسم الجغرافيا مع قبائل الجنجويد، كانت خاضت مع تلك القبائل منذ بداية الألفية حروباً طويلةً قاسية. يرى أبناء هذه الحركات أنّ ارتداءهم "الكدمول" يمكنه أن يساهم في تغيير الصورة التي علقت بأذهان العامّة بشأن هذا الزي، حتّى يفهم من لم يكن لهم احتكاك سابق بهذه الثقافات، أنّ هذا المظهر الذي تتشاركه قبائل الصحراء، وصادف أن ظهرت به العصابات المتفلّتة، وهي تقتحم البيوت وتسرق وتنهب وتغتصب، بريءٌ ممّن ارتكبوا تحت غطائه أفظع الجرائم.
يراهن المتحمّسون لهذا اللباس كذلك على دور المشاهد المتداولة التي يظهر فيها أبناء تلك الحركات وهم يقاتلون بشجاعة، جنباً إلى جنب، مع الجيش النظامي، مرتدين هذا الزي القبائلي، في تخفيف العداء الذي ينظر به عامّة السودانيين إلى "الكدمول".
"الجنجويد"، الذين حرصت قياداتهم على الظهور بمظهر يجمع بين الزيّ العسكري وغطاء الرأس التقليدي هذا، مارسوا تضليلاً منذ البداية، من خلال تبنّيهم سرديةَ أبناء الهامش، خاصّة دارفور، الذين خرجوا من أجل البحث عن حقوقهم التي سُرِقت منهم بواسطة أهل الوسط والشمال.
كان يمكن لذلك الخطاب ضدّ أبناء الشريط النيلي، الذين احتكروا الثروات لأنفسهم، أن يكون مقنعاً، وأن يكسب بعض الأنصار. الذي حدث أنّ جنود حميدتي كانوا هم من قطع الطريق على من كان بالإمكان سحبهم إلى الاقتناع بذلك الخطاب، حينما عادوا إلى مهاجمة حواضن القبائل التي يرون أنّها معاديةٌ أو منافسةٌ لهم في أقاليم مختلفة، من بينها دارفور، الإقليم، الذي كان ينعم بفترة استقرار وهدوء نسبي قصيرة، وعاد ليشهد بيد "الجنجويد" مجازرَ مروّعةً وانتهاكات ترقى إلى وصف "الإبادة الجماعية".
بدت مليشيا حميدتي بهذه الأفعال الوحشية التي لا تجد مبرّراً لها سوى العنصرية العمياء، أقرب إلى المجموعات الإرهابية، التي تدّعي الدفاع عن الإسلام، ويكون المسلمون، في الوقت ذاته، هم أكثر ضحاياها. ففي السودان كانت الهوامش التي تقول دعاية الحرب إنّ الغرض هو منحها حقوقها التي حرمت منها، هي من أهم ضحايا "الجنجويد" الذين يتّضح اليوم أنّهم استفادوا من أجواء الحرب في استعادة كفاحهم القديم، الهادف إلى تصفية وجود القبائل غير العربية عبر وضعهم أمام خيارين، الموت أو الرحيل.
لن تقبل مجموعاتٌ كثيرةٌ في دارفور، من بينها "الزغاوة" التي تلعب جماعاتها القبلية المسلّحة دوراً مهمّاً في مساندة الجيش ومنع تقدم المليشيا، أن يُترَك هذا الزي ليكون حِكراً على "الجنجويد"، تماماً كما أنّه لن يكون من المقبول عندهم، وبعكس ما يحدث اليوم بشكل عاطفي بتأثير الصراع الحالي، أن يُساءَ إلى مجمل التراث المحلّي من لهجات وأمثال وطرائق حياة، لمُجرَّد أنّ "الجنجويد" تبنّوها، وجعلوا منها تعبيراً عنهم. في المقابل، إصرارُ أبناء قبائل الجنجويد على التمسّك بهذا الزي محيّر، فنحن نذكر قبل هذه الحرب بوقت طويل، وفي خطاب لحميدتي، يوم أصبح قائداً لما يعرف بـ"الدعم السريع"، أنّه هو نفسه انتقد هذا اللثام، قائلاً إنّه قد يكون مفيداً في أجواء الصحراء، ولكنّه غير مناسب لقوات نظامية موجودة في داخل المدن.
لن تقبل مجموعاتٌ في دارفور، من بينها "الزغاوة"، أن يُترَك "الكدمول" ليكون حِكراً على "الجنجويد"
ذلك التمّسك، الذي يذكّر بتمسّك أبناء الطوارق بذلك الشال المشابه لـ"الكدمول" السوداني، زاد بعد اندلاع الحرب لأنّ "الجنجويد"، الذين كانوا يعتبرون أنّهم يخوضون حرباً ضدّ ما يطلقون عليه اسم "السودان القديم" أو "سودان 56" أرادوا أن يظهروا بشكل مغاير، وأن يمنحوا أنفسهم وسماً خاصاً. ارتداء "الكدمول" بهذا الشكل الكثيف كان في المقام الأول نكايةً في الجلّابية التقليدية، وفي العمامة، التي يرتديهما أغلب أهل السودان، وفرضتا نفسيهما زيّاً ورمزاً وطنياً.
لكلمة "الطوارق" معانٍ وتعريفاتٌ كثيرةٌ، ويمكن استخدامها للدلالة على القبائل العربية والأمازيغية التي تسكن منطقة الصحراء الأفريقية، وتمتد من غرب السودان إلى أقصى الغرب الأفريقي، بما يعرف أيضاً بـ"منطقة الساحل". هذه القبائل، التي يُحبّ أن يُطلق عليها بعضهم اسم "عرب الشتات"، تمتاز بالتشابه الكبير في مظهرها ولباسها، وبولائها الشديد بعضِها لبعض، كما تشترك في تبنّي العنف وسيلةً لتحقيق حلم تكوين وطن، إذ تعيش في بلدان مثل النيجر ومالي أقلّياتٍ. ذلك الإحساس يُفسِّر حالةَ التضامن "الساحلي" مع مشروع حميدتي، وسهولةَ جلب المقاتلين، الذين جاؤوا بعشرات الآلاف من دول مختلفة طمعاً في إنجاح مشروع أبناء عمومتهم في السودان، كما يُفسِّر لماذا كان التفريق بين "الجنجويد" المحلّيين وغيرهم من المرتزقة الوافدين صعباً، بسبب التشابه في السحنات واللهجة واللباس.