في زمن الكوارث ... الإنسان قبل السياسة

15 فبراير 2023
+ الخط -

منذ صباح يوم السادس من فبراير/ شباط الجاري، الذي استيقظ فيه العالم على هول الزلزال المدمّر التي سوّى بالأرض آلاف المباني السكنية في تركيا وسورية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، ما أدّى إلى هلاك الآلاف وترك مئات الآلاف بلا مأوى، حاول العالم أن يَغضّ الطرف عدة أيام عن الكارثة التي بدأت ملامحها المخيفة تتكشّف في المناطق التي ضربها زلزال العصر، وبعد فوات الأوان بدأت الأصوات ترتفع، خصوصا في المنطقة السورية، موجهة سهام النقد في فشل جهود الإغاثة والإنقاذ ابتداء إلى النظام السوري وانتهاءً بالمنظومة الإنسانية الدولية.

وفي الوقت الذي كانت فيه المساعدات الطارئة تتدفق إلى تركيا منذ الساعات الأولى للزلزال من دون عوائق نسبيًا، كان على ضحايا الكارثة في الجانب السوري أن ينتظروا أياما حتى يهلك من بقي منهم حيا تحت الأنقاض، وتتعاظم معاناة الناجين تحت درجات حرارة الشتاء الباردة، فضلاً عن نقص الغذاء والدواء والوقود، في انتظار أن تجد حكومات الدول والأمم المتحدة حلا لمعضلات سياسية ظلت عالقة منذ أزيد من عقد، فقد انتظرت الأمم المتحدة أسبوعا للاستجابة لضحايا الزلزال في سورية، بحيث لم يصل مبعوثها مارتن غريفيت إلى الأراضي المنكوبة إلا بعد مرور أسبوع على وقوع الكارثة، وأمام هوْل ما شاهده من دمار، أقرّ بأن جهودهم الإنسانية كانت غير كافية، ومعترفا بخذلانهم المنكوبين في شمال غرب سورية، الذين قال إنهم يشعرون بحقّ بأنهم مهملون بعدما طال انتظارهم لمساعدة دولية لم تصل بعد!

أما أعلى هيئة في الأمم المتحدة، أي مجلس الأمن، فقد تطلّب الأمر ثمانية أيام ليعقد أول اجتماع له بشأن تطوّر الأوضاع في سورية بعد الزلزال، في حين أن الأمر لم يستغرق أكثر من 48 ساعة، عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية يوم 24 فبراير/ شباط من العام الماضي، لتبادر الدول العظمى إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ للمجلس، والدعوة إلى جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة في اليوم التالي بشأن القضية نفسها، أي أن حكومات العالم التي تتحكّم في مؤسسات الأمم المتحدة احتاجت إلى يومين فقط لعقد اجتماعين لأعلى هيئتين في حكومة العالم عن أوضاع الحرب في أوكرانيا، وانتظرت ثمانية أيام بالتمام للدعوة إلى اجتماع "مغلق" لتدارس الأوضاع الإنسانية على أثر الكارثة الطبيعة التي خلّفت حتى كتابة هذه السطور أكثر من 35 ألف ضحية!

كشفت الدول العظمى، وخصوصا الغربية منها، عن سياسة الكيْل بمكيالين في تعاملها مع القضايا الإنسانية

مرّة أخرى، كشفت الدول العظمى، وخصوصا الغربية منها، عن سياسة الكيْل بمكيالين في تعاملها مع القضايا الإنسانية، ففي وقتٍ رأينا فيه كيف بادرت هذه الدول بسرعة إلى تقديم الدعم بسخاء إلى الفارّين من الحرب الروسية الأوكرانية، خصوصا من مواطني أوكرانيا، وتجييش الإعلام الغربي لمواكبة نزوح الأوكرانيين من بلادهم نحو أوروبا وأميركا، ظلت حكومات أغلب هذه الدول تبرّر عدم تحرّكها في الأيام الأولى للزلزال، خصوصا في الأراضي السورية، لدعم ضحاياه وربما إنقاذ أراوح من ظلوا عالقين تحت ركامه عدة أيام قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، بموقفها من نظام بشّار الأسد تارة، وخشيتها من أن تذهب مساعداتها المفترضة إلى عناصر إرهابية تارّة أخرى، تاركة الضحايا يموتون ببطء بينما كان أنينهم يُنقل من تحت الركام على الهواء مباشرة!

طوال أسبوع من زمن الفاجعة، ظل السؤال الأكثر وقاحة وعبثية يتكرر: هل يجوز تقديم المساعدة الإنسانية للضحايا في المناطق السورية خارج ما تسمّى "الشرعية الدولية"، سواء منها تلك التابعة لنظام بشار الأسد، الذي لم تعد تعترف به حكومات عديدة، أو تلك الخاضعة لسيطرة التنظيمات التي تصنفها حكومات دول أخرى إرهابية؟! وأدى هذا الاستقطاب الدولي العميق بين من قَدَّم المواقف السياسية على الإنسان ومن هرع لإنقاذ الأرواح أولا، إلى تأخّر المساعدات وترك الضحايا اليائسين أصلاً عاجزين أياما يواجهون مصيرهم المأساوي بأنفسهم. فحتى عندما تعلق الأمر بالزلزال الأكثر تدميرا الذي شهدته الإنسانية منذ مائة عام، كما قالت الأمم المتحدة، اختارت حكومات أوروبية كثيرة أن تضع مواقفها السياسية أولا قبل الاستجابة لواجب الضرورات الإنسانية، وتبعتها في ذلك، مع الأسف، حكومات عربية كان يجب أن تكون السباقة إلى إعطاء المثل في تقديم المساعدة، من باب الإنسانية وتعاليم الدين الإسلامي ووشائج العروبة التي تربط شعوبها بالشعب السوري المنكوب منذ سنوات.

كان يجب أن تتفوّق الضرورات الإنسانية وأن ينتصر الوازع الأخلاقي، منذ بداية كارثة الزلزال في سورية، على كل المواقف السياسية القائمة

كان يجب أن تتفوّق الضرورات الإنسانية وأن ينتصر الوازع الأخلاقي، منذ بداية الكارثة، على كل المواقف السياسية القائمة منذ فترة طويلة لضمان تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية. وبدون تقديم مساعدات عاجلة ومستمرّة خلال الأيام والأسابيع المقبلة، سيترك عدد أكبر من الناجين وممن تم إنقاذهم من تحت الركام ليموتوا ببطء من شدّة البرد والجوع وقلة الدواء في منطقةٍ كانت تعاني قبل الزلزال من تفشي مرض الكوليرا، ناهيك عن التأثير الذي ستحدثه الأزمة الإنسانية الحالية على ظروفهم الصعبة أصلا. ربما يكون الوقت قد تأخّر كثيرا لإنقاذ الأحياء العالقين تحت الأنقاض، إلا من رحم ربك، لكن وقت تقديم المساعدة للناجين بالكاد بدأ، ويجب وضع الواجب الإنساني قبل كل المواقف السياسية المسبقة، لأنه في غياب الدعم الإنساني الدولي لا بديل أمام المنكوبين في الجانب السوري سوى تعميق اليأس الذي حاربه أولئك الضحايا بشجاعةٍ أسطوريةٍ نادرة طوال السنوات الماضية.

كان من الممكن التخفيف من هول الكارثة، وربما إنقاذ أرواح بعض الضحايا، لو أن العالم تصرّف بالحس الذي امتلكه ذلك المواطن الأذربيجاني الذي جالت صورة عربته المتهرئة وسائط التواصل الاجتماعي، وهو ينقل مساعداتٍ بسيطة تكشف بساطة وضعه الاجتماعي، لضحايا الزلزال في تركيا في اليوم التالي للكارثة. كانت تلك الصورة أكثر تعبيرا واختزالا للمشاعر الإنسانية الصادقة من كل البيانات والتصريحات الرسمية لحكومات دول عديدة، برّرت تخاذلها في مساعدة المنكوبين بمواقف سياسية بدت بائسة أمام حجم المأساة وفظاعة الفاجعة.

احتراما لأرواح شهداء هذه الكارثة، يجب أن تكون دروسُها بمثابة "صحوة كبيرة" لحكومات ومنظمات دولية كثيرة عاملة في المجال الإنساني، لأنها تقدّم للعالم فرصة للتخفيف من إهماله للقتل اليومي البطيء الذي كان يطاول الشعب السوري المنسي في المخيمات والملاجئ بسبب تداعيات الحرب الوحشية التي عانوا منها والعقوبات القاسية المفروضة عليهم طوال السنوات الماضية، فقد أظهرت هذه الكارثة أن العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة من طرف واحد على حكومة دمشق، وتبعتها في ذلك حكومات غربية وعربية، لنفض يدها من الصراع الدامي الذي خاضته إلى جانب حلفائها لإطاحة النظام السوري، ليست سوى وسيلة بائسة للانتقام من الشعب السوري الأعزل، لأنه هو الذي يدفع ثمنها من لحمه ودمه، وفي حال عدم رفعها أو تعليقها يمكن توقع الكارثة التالية بعد الزلزال: تفشّي الأوبئة والأمراض المعدية وآلاف الضحايا الأبرياء، وأقل ما يمكن القيام به آنذاك هو المطالبة بتغيير عنوان القانون الذي بموجبه فرضت تلك العقوبات من "قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية"، إلى "قانون قيصر لإبادة آخر من تبقّى من المدنيين السوريين"، لأن الكارثة الإنسانية الكبيرة التي يعاني منها اليوم الشعب السوري، سواء في الملاجئ والمخيمات أو في المناطق تحت سيطرة النظام أو تحت سيطرة المليشيات، لها علاقة كبيرة بهذا العقاب الجماعي الذي فرضته حكومات دول العالم عليهم.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).