في ذكرى الجلاء عن سورية البعيدة عن الاستقلال
في الثامن من آذار مناسبة منسيّة، غيّبتها "ثورة" الثامن من آذار 1963، أو بالأصح الانقلاب العسكري الذي أدّى إلى السطو على الحكم لمصلحة حزب وحيد بلغ اليوم من العمر "عتيًّا"، تلته حركة تصحيحية مباركة، قامت بانقلاب عسكري أيضًا، وصارت ولادة سورية الحديثة وتاريخها يبدأ من هذا اليوم.
لكن، وبمناسبة يوم "جلاء" آخر جندي فرنسي عن سورية في 17 من إبريل/ نيسان 1946، لا بد من نظرة تأملية في معنيي الجلاء والاستقلال، والتأمل في واقع سورية اليوم، وما آلت إليه بعد كل هذا التاريخ الحافل منذ الجلاء إلى مرحلة الربيع العربي، الممتدّة إلى لحظتنا الراهنة.
في المؤتمر السوري العام يوم 8 مارس/ آذار 1920 بعيد سقوط الدولة العثمانية، بويع فيصل بن الحسين ملكاً وجرى إعلان المملكة السورية العربية رسمياً. كان العمل يرتكز على وحدة البلاد السورية وتكاملها مع العراق والحجاز واستقلالها، غير أنه، في وقت لاحق، قبِل اتفاق فيصل كليمنصو بمبدأ الانتداب الفرنسي. وفي ذلك اليوم، رفع علم المملكة السورية على الأسطح والمباني وفي الساحات الدمشقية، وزُيّنت ساحة المرجة، ولا أدري إن كانت الأغنية الشعبية الرائجة في سورية، والتي أحياها في السبعينيات دريد لحّام، أطلقت في هذه المناسبة "زيّنوا المرجة والمرجة لِنا/ خلّوها فرجة وهي مزيّنة"، في الساعة الثالثة بعد الظهر، وصل الملك فيصل مع حاشيته، وكان قد خصّص له مكان في صدر دار البلدية، ثم تلا أمين سر المؤتمر العام السوري، محمد عزّة دروزة، قرار المؤتمر بالاستقلال والتتويج من على شرفة المبنى أمام الحشود في ساحة المرجة.
وفي يونيو/ حزيران 1941 تمكّنت قوات الحلفاء وقوات فرنسا الحرّة من السيطرة على سورية، وطرد دول المحور منها، بعد أن كانت قد وقعت تحت سيطرة حكومة فيشي الموالية لألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وفي 28 سبتمبر/ أيلول 1941 عقد حفل إعلان الاستقلال في دار البلدية في ساحة المرجة أيضاً. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، اندلعت ثورة الاستقلال، والتي أفضت إلى عيد الجلاء يوم 17 إبريل/ نيسان 1946، ليتبعه إعلان الحكومة السورية في 25 إبريل 1946، إعلان تمام الاستقلال.
الصراع في المنطقة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراع العالمي بين القوى المتحاربة على السيطرة وإقامة نظام عالمي جديد
مرّت سورية، والمنطقة كلها، منذ ذلك التاريخ، بأحداث كبيرة ومفصلية ساهمت في ما وصلت إليه شعوب الشرق الأوسط، أهمها إعلان قيام دولة إسرائيل، وأخيراً تمكين ما تسمّى جبهة "المقاومة" وتمدّد النفوذ الإيراني في سورية ولبنان والمنطقة. أما ما وقع بعد هذا، فما زال قيد الوقوع، وما زالت سورية تدفع ثمنه. ... هل حازت سورية استقلالها؟ لم تحظَ به بعد، بل باتت إرادتها أكثر تقييداً وارتهاناً للخارج، وما وصلت إليه اليوم يطرح سؤالاً يعجز المرء أمامه: أين هي سورية، وماذا تعني في وعي الأجيال الحالية وضميرها، تلك الموزّعة على "سوريات" عدّة، كلها مناطق نفوذ ومرتهنة إلى قوى خارجية، تفرض التقسيم أمرًا واقعًا.
الصراع في المنطقة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراع العالمي بين القوى المتحاربة على السيطرة وإقامة نظام عالمي جديد، من الحرب الباردة بين أميركا وحلفائها والصين وحلفائها، إلى الحرب الروسية الأوكرانية، إلى الحرب على غزّة التي أظهرت بصورة جلية لا لبس فيها دعم المجتمع الدولي، الذي تشكله القوى العظمى، اللامحدود لإسرائيل، وظهر أيضًا، في الضربة الأخيرة التي ردّت فيها إيران على استهداف قنصليتها في دمشق مطلع إبريل/ نيسان الجاري، وقتلت قادة في الحرس القومي وعناصر إيرانية عسكرية، بأن أمطرتها بوابل من الصواريخ والطائرات المسيّرة، في ضربة قالت إنها أخبرت الولايات المتحدة عنها.
لقد تمكّنت إيران من أن تصبح لاعباً مهمّاً في المنطقة، على الرغم من قيود العقوبات الدولية المفروضة عليها، وتعدّ الأراضي السورية جبهة لمواجهة إسرائيل، وامتداداً لروابطها مع حزب الله في لبنان، كذلك وجودها في إيران واليمن، عملت، على مدى السنوات الماضية، على لعب هذا الدور بإصرار، وتجلّى أكثر في موقفها من الحرب في غزّة، وتصريحاتها حولها، فقد طوّرت الصواريخ الباليستية من أجل إيصال قوة تدميرية إلى مسافات طويلة، وعملت على تهديد حركة الملاحة في الخليج ومضيق هرمز، واشتغلت على إنشاء قوات غير تقليدية واستخدام شركاء وحلفاء في شبكة جماعات تمتدّ في عموم المنطقة، وتشمل سورية ولبنان والعراق واليمن وقطاع غزّة. أدّى هذا الوضع المشغول عليه من إسرائيل وإيران إلى ترسيخ واقع على الأرض "تنافس وصراع استراتيجي يمكن أن ينفجر في أي لحظة في حربٍ على عدّة جبهات في المنطقة"، وهو ما لا تريده أميركا وحلفاؤها، لكن المنطقة كلها تقف على أعصابها خوفاً من هاوية ستبتلع كل شيء إذا وقعت.
أين هي سورية، وماذا تعني في وعي الأجيال الحالية وضميرها، تلك الموزّعة على "سوريات" عدّة؟
تستهدف إسرائيل المنشآت العسكرية الإيرانية، والمنشآت الأخرى، التابعة لوكلاء طهران في سورية، منذ فترة طويلة، لكن الهجوم على القنصلية الإيرانية هو بمثابة هجوم على أراضي إيران. لكن، على الرغم من أن صفعة إيران على خدّ إسرائيل لم تكن موجعة بالمطلق، إلّا أن عنجهية إسرائيل وجبروتها يجعلان من هذه الصفعة "الناعمة" بمرتبة هجوم مشين على سيادتها فيما لو سكتت عنها، والعالم القوي يؤيدها في "حقّ الدفاع عن نفسها"، في وقتٍ لم يستطع خلال العقدين الماضيين على الأقل إيقاف تمدّد إيران في المنطقة، وأن يمنع قتل الشعب السوري وسطوة جهاتٍ كثيرة عليه وتقسيمه، ولم تكن لديه الإرادة في لجم إسرائيل عن استباحتها الأراضي الفلسطينية وحياة الشعب الفلسطيني وبناء المستوطنات، وأخيراً حربها الوحشية على غزّة.
ستستمرّ لعبة "كسر العظم" على الأقل في سورية، وستستمر الغارات الإسرائيلية واستهداف مصالح إيران فيها، فيما لو حوصرت المواجهة في نطاقٍ ضيّق، وستبقى سورية مرتهنة إلى الخارج، وسيبقى الاستقلال حلمًا لم يتحقق في أي يوم عند الشعب السوري، فالاستقلال قبل كل شيء يلزمه تحرير إرادة الشعوب، وتركها تصنع حياتها السياسية ومستقبلها ومصيرها من دون إملاءات، وهذا يبتعد عن إمكانية التحقّق في سورية مع كل يوم زيادة في صراع القوى الإقليمية والدولية.
صحيحٌ أن الحرب في سورية تراجعت إلى معارك متفرقة في بعض المناطق، لكنها أدّت إلى تغيير الجغرافيا السياسية الإقليمية، والتي يتجلى أحد آثارها الأكثر مأساوية على ما يبدو في زيادة نفوذ إيران في شرق البحر الأبيض المتوسط وبلاد الشام، من دون إغفال بقية الجهات اللاعبة، من إقليمية ودولية.
هل يحتفل السوريون في منطقة النظام اليوم، وفي منطقة الإدارة الذاتية، وفي منطقة الحكومة المؤقتة، ومنطقة حكومة الإنقاذ، بعيد الجلاء، جلاء آخر جندي فرنسي عن سورية، بالنزعة نفسها والرغبات عينها والإرادة ذاتها، وقراءة التاريخ الواحدة، والتطلّع إلى مستقبل واحد؟ من خلال ما نحن عليه اليوم، فإن الجواب: بالتأكيد لا.