في خلوّ البال
ماذا تفعل حين يزيد ما لديك عما تحتاجه ويتحوّل إلى محنة، بدلاً من أن يكون منحة. ليس الحديث هنا عن ثراء مادي أو امتلاك أشياء مادية ملموسة، ولكن عن كم المعلومات والمعارف المتاحة عبر الإنترنت. تتنافس وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية في سرعة تحديث الأخبار على الشبكة العنكبوتية، وهو ما يعد الآن من معايير الجودة. المواطن العادي لا تسعه ملاحقة كل هذا الزخم من الأخبار والمعلومات في شتى مناحي الحياة، العقل البشري يصعب عليه استيعاب كل هذه المعلومات وتصنيفها واستخلاص النتائج منها. لذا، كلما زاد حجم المعلومات والأخبار، ارتفع معدّل تعلق الناس بأشخاص أو وسيلة إعلامية تنقل إليهم المعلومات بصورة انتقائية، تريحهم مع تقديم تحليلات وتفسيرات، لما يحدُث، مع الوقت، ينحاز كل شخصٍ، حسب ميوله وفكره، إلى أشخاصٍ بعينهم يعتبرهم مرجعية، وكذلك منصّة إعلامية يثق بها، ويجدها الأقرب إلى فكره ووجدانه، لكنه لا يدرك حينها أن هذه المنصة قد سلبت عقله ومعه حرية الاختيار القائم على الوعي، وأنه تحوّل إلى مجرد متلقٍّ لا حول له ولا قوة، بل يتحوّل إلى فكر الألتراس وأسلوبهم.
أوجدت وسائل التواصل الاجتماعي عالماً افتراضياً ينافس بقوة العالم الحقيقي والإعلام التقليدي، المنصّات الرقمية تنتج، هي الأخرى، طوفاناً من المعلومات والمعارف ينافس الإعلام القديم، ويتميز بجاذبيته وسهولة الحصول عليه والتفاعل معه عبر الهواتف الذكية. يُحسب للإعلام التقليدي أنه ما زال يتمسّك ببعض التقاليد فيما يخص المهنية والمصداقية وأشياء أخرى من هذا القبيل. أما وسائل التواصل الجديدة وتطبيقاتها المتعدّدة فهي عالم بلا قواعد أو قيود سوى تعليمات وشروط توافق عليها قبل أن يسمح لك باستخدام التطبيق. وغالباً تكون شروطاً وضعت بعناية لمصلحة من يمتلك التطبيق ويديره، ليحقّق منه مكاسب مادية، ولا يتسبب له في مشكلات قانونية لاحقة، ولا علاقة لها بتنقية المحتوى أو مدى مصداقيته. لا يلزَم صانع المحتوى على وسائل التواصل أن يكون شخصاً معروفة مؤهلاتُه أو سيرته الذاتية، لكن ما يحتاجه أن يقدّم محتوىً يجذب به آلاف وملايين المتابعين، سواء كان ما يقدّمه مفيداً أو تافهاً، صادقاً أو كاذباً. منصّات التواصل أشبه بكرنفال ضخم أو سيرك كبير يقدم فيه الجميع عروضهم على الهواء مباشرة، والجمهور هو الحكم وعلامة الإعجاب هي مقياس النجاح.
فقّاعة ضخمة شفافة، يعيش داخلها إنسان القرن الـ 21
في ظل هذه الفيض الغزير من المعلومات الصحيحة المدققة والكاذبة، المنسوجة من خيوط الجهل أو السذاجة أو سوء القصد، تصبح فكرة خلوّ البال مستحيلة، فعقل الإنسان العادي يتعرّض لغزو معلوماتي يومي يفيض عن حاجته بأضعاف مضاعفة، وهذا الفيض لا يساعده على أن يعيش حياة أفضل كما هو متوقع، لكن في معظم الأحيان تجعله مشتتاً غير قادر على الاختيار، بل يستسلم لما يتم حشو عقله به، ويتخذ، في العادة، الأفعال نفسها، التي اعتاد عليها أو يرتاح لتقليد غيره، عدوى الفعل الموحّد تتفشّى بين الجموع المغيبة. أقلية فقط تحاول أن تبقي مكاناً متّسعاً في عقلها لأفكار تناقشها وموضوعات تحاول أن تجد لها تفسيراً وحلولاً بعيدة عن الحلول المعلبة التي يجري ترويجها بوصفها سلعاً جاهزة على أرفف الإعلام التقليدي والعالم الافتراضي، حيث يتعامل الجميع مع المتلقي على أنه السلعة التي يتم بيعها، في النهاية، للمعلنين الذين يروّجون منتجاتهم عبر هذه الوسائل.
فقّاعة ضخمة شفافة، يعيش داخلها إنسان القرن الـ 21، ولأنه يشاهد بعينه كل شيء حوله يظن أنه غير مقيّد ولا مسجون، ولا يفكر عادة في تمزيق هذه الغلالة الشفّافة والتحليق بعيداً، ولكنه يشعر بالاغتراب، وبحالة من التشوش وخسارة السلام النفسي، ويصبح خلو البال مطلباً عزيزاً. أصدر يوسف إدريس، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كتاباً عنوانه "خلو البال"، شرح فيه حال المجتمع المصري، وانتهى إلى أن الإنسان الذي لا يعيش خلو البال يعجز عن الإبداع والتجديد والحركة والسعادة والبهجة.
نخسر أنفسنا حين لا نوليها الوقت والاهتمام الكافي والتقدير المناسب
بعد ما يقرب من أربعة عقود على صدور هذا الكتاب، يبقى سؤال: هل أصبح خلو البال مطلباً مستحيلاً في عصرنا؟ أم أنه حالةٌ يمكن الوصول إليها بجهد ومثابرة وإرادة؟ وهل الأمر يستحق العناء أم أن الأسهل أن يغرق الإنسان نفسه في طوفانٍ يمتزج في مائه العذب بالمالح، الخبيث بالطيب، وكيف يمكن أن نسترجع هذه الحال التي تسمح لنا بحرية الاختيار وفق إرادتنا واحتياجنا الحقيقي، وتضمن لنا صفاء النفس وسلام الروح والتفاؤل الإيجابي والأمل؟
ليس هناك وصفة جاهزة يمكن تعميمها، ولكن مجرّد تصور عن أن البداية لا بد أن تكون التعود على العزلة بمقدار، لنعطي وقتاً لأنفسنا، نراقب أنفسنا ونقيّمها ونتجهز للتغيير المفيد، فذاتك هي رفيقك الدائم في رحلة الحياة الممتدّة، ويجب أن نعرف عنها ما يجعلنا قادرين على قيادة حياتنا بثقة وراحة ونجاح. وكما قال السيد المسيح: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه"، نخسر أنفسنا حين لا نوليها الوقت والاهتمام الكافي والتقدير المناسب ومعرفة نقاط ضعفنا لنتغلّب عليها ونقاط قوتنا لنعزّزها ونستفيد منها.
لا تُسلم عقلك لأحد ولا تستسلم للطوفان، واحرص على الوصول إلى مرحلة خلو البال، رغم كل هذا الزحام، فهو في الحقيقة لا أحد.