في خسارة اليسار الأردني الفادحة
يروي جورج حبش (في حوارٍ لم يُنشر بعد!) أنه لمّا فتَح، ووديع حداد، عيادة في عمّان، ما قد يُعدّ تكليفاً تنظيمياً، إبّان كانا في 1952 من النشطين في حركة القوميين العرب، كان الاختيار أن تكون أمام سوق الخضار، ليكونا في وسط الناس. وأنه، ورفاقُه، كانوا (بتعبيره) يعدّون أنفسهم للفوز في "معركة التحدّي" التي حدّدوها لأنفسهم، وكان لها عنوانان: مسلكي والآخر نظري وسياسي. وقال: "كان علينا أن ننجح في الممارسة طبقاً لما كنّا نعتقد ونقول إن الأحزاب العربية كانت غير جادّة، ولا تعيش في وسط الناس، ولا تناضل مباشرة". ويسترسل في أنه وحدّاد، في السنتين الأوليين من وجودهما في عمّان، افتتحا مدرسةً لمكافحة الأميّة، "ليس انطلاقاً من نظرةٍ خيريةٍ أو مثاليةٍ لمكافحة الأميّة، بل على أساس الاتصال بالناس والجماهير". وقال "أفادتنا هذه المدرسة جدّاً في الصلة بالناس والجماهير، وربما ضممْنا من خلالها إلى صفوفنا عدداً من الرفاق الذين استمرّوا ثابتين في العمل الوطني". وأفاد بأنهما حدّدا يوماً في الأسبوع للتطبيب المجاني، "ليس على أساس نظرةٍ إنسانية، بل على أساس الصلة بالناس".
لا يُستدعيا هنا، حكاية ذلك التنظيم القومي ونشاط شابّيْن منه صارا فيما بعد من زعامات الكفاح الميداني والجبهوي الفلسطيني، صدوراً عن حنينٍ ما، أو للدعوة إلى اهتداء الأحزاب العربية الجديدة والناهضة بما زاوله حبش وحدّاد قبل أزيد من 70 عاماً، وإنما للقول، بمناسبة نتائج انتخابات الثلاثاء الماضي النيابية في الأردن، إنّ درْساً ملحّاً في الهزيمة المدويّة لليسار الأردني، في مختلف تلويناته، سيفترض، أولاً وأخيراً، اعترافاً صريحاً بفشل الفاعليات والتمثيلات المتنوّعة في تشكيلات هذا اليسار في التواصل مع الناس، أو على الأصحّ بعجزها عن ابتكار طرائق ووسائل (هل نقول خلاقة؟) لهذا التواصل. وإذا قال قائل إن نتائج طيّبة (21 مقعداً) أحرزها حزب الميثاق الوطني، الذي بالكاد أكمل عاماً ونصف عام من عمره، لا تعود إلى كفاءاتٍ فيه أبدعت في التواصل مع مختلف شرائح الأردنيين في أريافهم ومدنهم وقراهم، وإنما بالنظر إلى ارتكازاتٍ مناطقيةٍ وخدماتيةٍ وجهوية، وكذا إلى دعايةٍ عن قرب أهل هذا الحزب من أصحاب القرار والنفوذ، إذا قيل هذا، وهو صحيحٌ، فإنه يُضاعف صحّة الفرضية التي يُؤتى عليها هنا، أن أهل اليسار الذين يعدّون أنفسهم، عن حقّ، الأقرب إلى التعبير عن تطلّعات الأردنيين إلى عدالةٍ اجتماعيةٍ، وإلى تيسير فرص عيشٍ كريمٍ مفتقدة غالباً، لم يُتقنوا مهارة التواصل الحقيقي مع بيئات المجتمع المتنوّعة والمركّبة، والتي تمكّن من النفاذ إليها خطابُ حزبٍ يوالي السلطة، أو أقلّه لا يعِد بمخاصمتها في شأن عام.
لا يتعالم صاحب هذه الكلمات على خبراتٍ من أصحاب الثقافة الرفيعة، وممن يتوطّن فيهم حسٌّ عالٍ بالمسؤولية المجتمعية في محيطهم، وينتسبون إلى الأحزاب والتمثيلات اليسارية والديمقراطية (والليبرالية) في الأردن، وتنافسوا في معركة انتخابات مجلس النواب، أخيراً، عندما يذهب إلى أن أهم أسباب إخفاق هذه الأحزاب المدوّي في هذه الواقعة، هو الافتقار إلى شبكة تواصلٍ اجتماعية وثقافية عميقة مع عموم الأردنيين، مع الإقامة في ظلالٍ نخبويةٍ ومدينيةٍ غالباً، وإنْ يرى من يرى في حداثة هذه التجربة وجدّتها، في مقابل تجذّر عمل "الإخوان المسلمين" في البلاد عقوداً، سبباً قوياً آخر. على أن الإتيان على هذه البديهيّة لا يجوزُ أن يُعمي الأبصار عن فشل هذه الأحزاب في التحالف بالحدود الدنيا في قوائم أصلب، وأقدر على المزاحمة في خريطة القوائم العامة والمحلية. كما أن استدعاء حكاية تلك العيادة في شارع الملك طلال في عمّان لا يعني أن ينصرف ناس اليسار، ومنه الديمقراطي والوسَطي، في الأردن، إلى تطبيب العموم، وإنما يعني أن الوعي بضرورة التواصل المباشر مع الناس، عموم الناس (كان وديع حدّاد يحدّث ماسحي الأحذية عن التعلم في مدرسة محو الأمية) كان قناعةً مركزيةً لدى تلك النخبة التي أرادت بناء تنظيماتٍ من الناس أنفسهم. ولمّا كان أولئك الشبّان في الخمسينيات يقولون إن أحزاباً عربية "لا تعيش وسط الناس"، فإننا، على مبعدةٍ من كل هذه السنوات، ومن دون التغنّي بماضٍ لا يشابه الحاضر في شيء، نجدُنا نقولها، بعد انتخاباتٍ في الأردن، اتّصفت بمقادير عاليةٍ من السلاسة، إن تطوير حياةٍ حزبيةٍ مشتهاةٍ في هذا البلد، تأخُذه إلى إيقاع سياسي واجتماعي وثقافي آخر، يتطلّب بداهةً بعض عيشٍ وسط الناس، ما أمكن.