في حكاية زياد عيتاني

30 نوفمبر 2017
+ الخط -
اللبناني زياد عيتاني ممثلٌ مسرحي، والنجاح في هذه المهنة مرهونٌ، بالضرورة ربما، بمدى انجذاب الجمهور إلى ما يصنعه صاحبُها على الخشبة. وعلى ما يقول زملاء، فإن عيتاني، لحسن أدائه في المسرح، في دور الحكواتي غالبا، ولمعرفةٍ سابقةٍ بشخصه إبّان عمله في تلفزيونٍ محلي، أصاب مقدارا من الشهرة في بلده. أما حالُه اليوم مُحالا إلى جهة قضائية مختصة، بعد توقيفه لدى "أمن الدولة"، والتحقيق معه "بجرم التخابر والتواصل والتعامل مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية"، فإن جمهورا شاسعا يتابع الحكاية بخصوصه، والتي يتعدّد رواتُها، أكثر من الذي تقاطر إلى صالة المسرح، ورأى زياد عيتاني بطربوشه، يحكي عن بيروت أيام زمان وفي أيامها الآن. وفي الوسع أن يُقال إن حكاية هذا الجرم الثقيل صنعت للشاب المسرحي (42 عاما) نجوميةً، فاضت عن جغرافيا لبنان طبعا، ولم تحقّقها التهمة المريعة التي رُمي بها صاحبنا هذا، وقرأنا أنه اعترف بها، فحسب، وإنما أيضا لأنه صار بطل حكايةٍ تتوفر على كثيرٍ من الشائق والمسلّي، فيها امرأة شقراء (قيل اثنتان)، وفيها دولارات (قيل إن لا دولارات فيها)، وفيها ابتزازٌ وبعض الجنس، وفيها قبل هذا كله وبعده إسرائيل، وتجسّس، وهواتف وشيفرات، وفيها ترصّد وتربص، وفيها مخدّرات (!). ولما كان ملعب الحكاية هو لبنان، فإنه يشذّ عن التقليدي المأخوذ به في غير بلد، أي حصر المعلومات المنشورة في قضيةٍ حسّاسةٍ قيد التحرّي والاستنطاق بشأنها بجهةٍ، أو جهاتٍ، مختصة. أما الملعب اللبناني فلا مشكلة في أن "يُستباح" فيه زياد عيتاني (وغيره) كيفما اتفق، فيصبح للحكاية أكثر من راوٍ، يجوز لكل واحد أن ينتقي منها ما يروقُ له، ويخفي أخرى، ويزيد من عنديّاته إذا شاء.
صار وراءنا أمر الروايات والتسريبات، والتناقضات التي حفلت ببعضها، والصحيح وغير الصحيح فيها، وصار وراءنا أن صحيفةً بيروتيةً بعينها بدا لمتابعي الحكاية (الجذّابة) أنّ مندوبا منها كان حاضرا في جلسات استجواب زياد عيتاني. ذلك أن بيانا رسميا صدر، وأوجز ما يتّهم به ممثّل المسرح المقبوض عليه، ولم يكترث بنفي ما ذاع أو تأكيده. أخَذنا هذا البيان إلى فصلٍ جديد من حكاية عيتاني هذه، والتي ينوب عنه في سردها أمامنا، نحن الجمهور الشاسع، آخرون غيرُه، بعد أن صار دورُه بطلا يُروى عنه بضمير الغائب، في روايةٍ تتعدّد فيها تنويعات القص، عن تجسّس وتخابر وتعامل، وعن الوزيرين اللبنايين، الحالي نهاد المشنوق والسابق عبد الرحيم مراد. وفي هذا الفصل الذي يُؤثر السارد المركزي فيها تباطأ الإيقاع في الذي يُحكي عنه، ربما لأن المهمّة صار يتولاها قضاةٌ، وللمؤسسة التي ينتظم عملهم العدلي فيها أن تُذيع وتخفي ما تشاء، وربما لمحامٍ يتولى الدفاع عن المتهم أن يطلّ، إذا أراد أو أجيز له، فيفيد بالمفيد.
ولأن مقادير التحرّز في خوض معلقٍ على مبعدة بلدانٍ وبلدانٍ من موطن التسريبات المثيرة في الأيام الفائتة صارت أقل، بعد إعلانٍ رسميٍّ عن جرم "التخابر والتواصل والتعامل مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية"، وعن ضبط أربعة حواسيب وخمسة أجهزة خلوية، قالت المديرية العامة لأمن الدولة اللبنانية إن عيتاني كان يخزّن فيها "الداتا السرية"، لأن هذه المقادير صارت أقل، في الميسور، إذن، أن يرى واحدُنا فيها شواهد على غير أمرٍ، من قبيل أن المثقف والفنان والمسرحي والكاتب يمكن أن يصير جاسوسا، وإنْ تورّط في فخّ الجاسوسية عن غير رغبةٍ مسبقة، (يبدو، والله أعلم، أن حالة عيتاني من هذا النوع). ومن قبيل أن إسرائيل لا تريد عن لبنان (وغيره) من المعلومات ما هو جوهريّ فقط، بل تريد كل شيء، فما قد يبدو نافلا وضئيل الشأن لدينا له أهميته الكبرى لدى أجهزتها، فإذا كان صحيحا أن ممثلا مسرحيا لا يحوز على ما هو عظيم القيمة من أحوال لبنان وتفاصيله، إلا أن في وسعه أن يكون مفيدا في غير أمرٍ ومسألة. ومن شواهد أخرى تُرى في واقعة زياد عيتاني وحكايته أن كل أجهزة التنصت وكل تكنولوجيات التجسّس، ولدى إسرائيل منها ما نعرف ولا نعرف، لا تُغني عن العنصر البشري، عن الفرد في أي مطرح، ولو حكواتيّا بطربوشٍ على خشبة مسرح، هذا إذا ثبتت على عيتاني التهمة. وإذا لم تثبت، فلا مدعاة لقراءة هذه المقالة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.