في حربائية التطرّف والإرهاب

17 مارس 2022
+ الخط -

يتحدّث الجميع عن الإرهاب، وتُشَخَّصُ الكلمة في أسماء ومُسَمَّياتٍ عديدة، ترتبط بالعقائد والمذاهب والخيارات السياسية، كما تشير إلى الأعراق والدول، الأمر الذي يضاعف صعوبات ضبط دلالتها، رغم معاينة الجميع الآثار المترتِّبة عنها. صحيحٌ أن أبحاثاً وتقارير دولية عديدة أبرزت الطابع الحربي الذي تتخذه اليوم أغلب الأفعال الإرهابية، حيث تنشأ، على هامش الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية، علاماتٌ تشير إلى توظيف جملة من الوسائط الإرهابية، في عمليات مواجهة الخصوم، فيتحوّل المجتمع، وتتحول العلاقات الدولية، نتيجة ذلك، إلى بُؤَرٍ مشتعلة يُعَمَّم فيها القتل والخراب.

تتشكّل الأحلاف والمجموعات الدولية لمواجهة الظاهرة الإرهابية، وفي كل يوم يبتكر الإرهابيون ما يسعفهم بملء الأماكن العامة بالأشلاء والأصوات المفجوعة، ولا تنتهي واقعةٌ إرهابية إلا لتبدأ أخرى. أما ضحايا الإرهاب فلا يمكن حصرُهم، وإذا كنا نتحدّث في العالم العربي منذ زمان، عن صور الإرهاب المتواصلة من الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، فقد أضفنا، في السنوات الأخيرة، أحوال الشعوب، العراقي والسوري واليمني والليبي، الأمر الذي يجعلنا نقول، من دون تردّد، إن ضحايا التطرّف والإرهاب في عالمنا العربي يفوقون اليوم ضحاياهما في العالم أجمع.

أصبحت الظاهرة الإرهابية في العالم، في قلب الأزمات العديدة التي تعرفها مجتمعاتٌ كثيرة في أغلب القارّات

انطلاقاً من المعطيات التي راكمتها تجربة مواجهة الإرهاب في السنوات الأخيرة، يمكن بناء سجل من المعطيات، كما يمكن رصد كمّ هائلٍ من الوقائع المساعدة في عملية الإحاطة به. وأمامنا في عينة الحوادث الإرهابية التي تَمَّت في السنوات الأخيرة، في كل من فرنسا وبريطانيا وأفغانستان على سبيل التمثيل، جملةٌ من العناصر القابلة للرصد والترتيب والتعقل، بهدف الوقوف على الجوامع المساعدة، في عملية ضبط مكوِّنات الظاهرة في أبعادها المختلفة، والتفكير أيضاً في كيفيات محاصرتها والحدِّ من آثارها.

تتمثَّل السمة الغالبة على الحرب الإرهابية المتواصلة في الطابع الزئبقي لنمط حضورها وصور مواقعها. ونستطيع مُعَايَنَة ذلك، في تنوُّع مواقف الأطراف المتصارعة وتناقضها، حيث يساهم أكثر من طرفٍ، على سبيل التمثيل، في الصراع مع تنظيم داعش، في ضربه وضرب من يتحالف معه، والعمل، في الوقت نفسه، على الاستفادة من الآثار المترتِّبة عن أفعاله. ولا يتعلق الأمر بـ"داعش" وحده؛ إنه يتعلق، أيضاً، بأطرافٍ أخرى تتخذ مواقع ومواقع مختلفة من التنظيم. وتَتَّسِع الدائرة لتكبر، فلا أحد يُدرك، وسط الدمار الحاصل، حقيقة ما جرى ويجري، وَمَن صَنَعَ ويصنع الآخر ويُسَخِّره؟ مَن يُساهم في صناعة مظاهر الفوضى الجارية في عالمنا؟

السمة الغالبة على الحرب الإرهابية المتواصلة في الطابع الزئبقي لنمط حضورها وصور مواقعها

تقرّبنا البيانات التي تعلن تبنِّيها الحدث الإرهابي، الصادرة، في الأغلب الأعم، عن مجموعة من التنظيمات السلفية والجهادية، من جوانب عامة من الموجّهات الكبرى للجهات التي تعترف بأنها وراء ما حدث، فندرك أنها تنتظم تحت جامعٍ أكبر يتمثَّل في معاداتها مجتمعة كل ما يجري في العالم بروح ظلامية. ولهذا السبب، تمارس الضرب بطريقةٍ عمياء، متوخيةً إصابة أكثر من هدف. وغالباً ما تحصل الضربات الإرهابية في مكانٍ مغلق أو مفتوح، بصورة مفاجئة، تحصل بفعل حركةٍ يمارسها فرد أو جماعة (الذئاب المنفردة أو المليشيات)، وتستخدم فيها وسائل وأدوات وأقنعة متعدّدة .. تترتَّب عنها آثارٌ تكبر أو تصغر، حسب الحجم المقرّر للفعل وللآثار المنتظرة منه. تتعالى الأصوات والتعبيرات بعد حصول الفعل، وننتظر صدور بيان الجهة التي تُقِرُّ بأنها المدبِّرة ما حدث، كما ننتظر صدور المواقف المندِّدة بما حصل، والمواقف التي تُبرِّره وتضعه في سياق صور الصراع القائم في العالم. لتظل الصورة، رغم كل البيانات والتوضيحات، غامضة، وليظل الخطاب المرتبط بها مُضَلِّلاً.

أصبحت الظاهرة الإرهابية في العالم، في قلب الأزمات العديدة التي تعرفها مجتمعاتٌ كثيرة في أغلب القارّات، وتشغل الدول في المنظمات الدولية. وعلى الرغم من كل الجهود والعهود التي أُنجزت من أجل محاصرتها، فلا تزال تصنع الحدث وتخلف الدمار في العالم. وقد تزامن تصاعد المد الإرهابي مع تنامي ظاهرة استخدام الدين في قلب دوائر الصراع السياسي، بهدف إصابة مرامٍ سياسية، ذات صلةٍ بمتغيرات كثيرة جارية في مجتمعاتنا. وضمن هذا السياق، نشأ الاشتباك المعقّد باستخدام آليات في التقليد الإسلامي المحافظ، لمواجهة الخصوم، سواء في الداخل أو في الخارج، حيث تلجأ الجماعات المتطرّفة لتوظيف صور معيَّنة عن إسلام متخيل، يبرز ذلك في ممارستها كما يبرز في الأحزاب ذات المرجعيات الدينية، حيث يسند الواحد منها الآخر، ويُركِّبان معاً مزيجاً من المعتقدات، يختلط فيه الحلم بالواقع وبالتاريخٍ.

التقدّم في مواجهة ما تعرف بالظاهرة الإرهابية مرهون اليوم بكفاءة التعقّل القادر على ضبط حدودها

يمكن أن نُدرج صناعة المِلَل والنِّحَل وتجديدها ثم خَلْطها، وهي صناعة تنامت وتزايدت بصورة لا مثيل لها في أغلب المجتمعات العربية، ضمن الأدوات الحربية الجديدة، المستخدمة في صراعاتنا اليوم مع بعضنا ومع العالم. ويمكن أن نضيف إلى ما سبق، ظاهرة خلط الأوراق والمواقف السياسية والاستراتيجية من طرف المعنيين بموضوع الإرهاب، الأمر الذي يقرّبنا من المآزق الفوضوية السائدة في أكثر من جهة في العالم، ولا نقصد بذلك ما تعرف بنظرية الفوضى الخلاقة، بل إن الفوضى التي نتحدث عنها هنا أقرب ما تكون إلى الفوضى الانتقامية، الأمر الذي يُبرِز عنف الظاهرة ويُكثِّف درجات غموضها..

التقدّم في مواجهة ما تعرف بالظاهرة الإرهابية مرهون اليوم ليس فقط بالخطط الرامية إلى القضاء عليها، بل بكفاءة التعقّل القادر على ضبط حدودها، وذلك رغم طابعها الحربائي، الأمر الذي نتصوَّر أنه يساعد في الاقتراب من الصراعات السائدة في مجتمعاتنا وفي العالم. ونحن نتصوَّر أنه لا علاقة لأفعال الإرهاب المتواصلة في العالم، لا بالحروب الصليبية ولا بمنطق الجهاد ونشر راية الإسلام، حيث تتميز آليات عمل الأفعال الإرهابية بطابع تختلف فيه المواقف والصور التي اعتدنا عليها في حروب القرن الماضي، وهي تخضع اليوم لحسابات جديدة ومعقَّدة، فلا يمكننا أن نواجهها اليوم فقط بِمُرادَفَتِها بالعقائد الدينية، بل ينبغي أن نهتم بالبحث في ضبط حدودها وأبعادها، وكذا تصوُّرها للعقائد والسياسات وتدبير أنماط الصراع في عالم ما يفتأ يتغير، ويتخذ صوراً مختلفة في علاقة مع التحوُّلات التي يعرفها عصرنا، سواء في نظام العلاقات الدولية أو في مجالات المعرفة والاتصال والتقنية والحرب.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".