في تكريم خبز محمد النعّاس
للكاتب الليبي، خرّيج الهندسة الميكانيكية، محمد النعّاس (31 عاما)، مجموعة قصص قصيرة عنوانها "دم أزرق"، صدرت قبل عامين. لم يُكترَث بها احتفاءً أو انتقاداً، غير أن روايته "خبز على طاولة الخال ميلاد"، الصادرة قبل عام عن داري نشر في السعودية وتونس، منذ عبرت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، في يناير/ كانون الثاني الماضي، من بين 122 رواية متنافسة، ثم وصولها إلى القائمة القصيرة في مارس/ آذار الماضي، والأخبار تتوالى عن طبعاتٍ جديدةٍ لها تصدُر في الجزائر ومصر والإمارات، وبحثُ القرّاء والمهتمّين عنها ينشط، حتى إذا أحرزت، مساء الأحد الماضي، الجائزة الأولى في حفل في أبوظبي (غاب عنه النعّاس نفسُه لوصوله متأخّرا)، صار التنقيب عن الرواية ملحّا، وصعبا إذ لم يفلح قراصنةٌ في أن يوفّروها في شبكة الإنترنت. وبعد أن أمضى الليبيون ذلك النهار في تجاذباتٍ حادّة في "السوشيال ميديا" بشأن استقطابات في بلدهم، انتهى آلافٌ منهم، في المساء، إلى التعبير عن ابتهاجٍ عظيمٍ بفوز شابٍّ ليبيٍّ بجائزةٍ شهيرةٍ مقدّرة، وكأن ليبيا فازت بكأس العالم، في تشبيهٍ من الكاتب الليبي جمعة بوكليب (عضو لجنة تحكيم "بوكر" في دورتها أخيرا)، وقد كتب إن كل الفرحين بالمناسبة النادرة (إلا نسبة ضيئلة جدا منهم) لم يكونوا قد سمعوا قبلا بالنعّاس، وبعضُهم لم يقرأوا في حياتهم أي رواية. وإلى هذا، أعلنت وزارة الثقافة والتنمية المعرفية (هذا اسمُها) اللييبة "أصدق التهاني" له.
تُهدي جائزة بوكر العربية، إذن، لقرّاء الرواية والذوّاقة والمهتمين اسما جديدا، من تاجوراء في ليبيا، ربما لا يجوزُ وصفُه واعدا، فروايته الأولى المكرّمة مكتملة القوام، وليس فيها العيوبُ الباهظة، المعهودة غالبا في البواكير، إلا إذا ذهب القولُ إلى أن حكي الخبّاز ميلاد عن نفسِه، كما ضمّه محمد النعّاس في ستة فصول، يَعِدُ باقتراحاتٍ، في طرائق الكتابة ومباني السرد وتناوب الحكي، قد يأتيها الروائي الشاب في نصوصٍ له لاحقة، بعد أن جاءت "خبز على طاولة الخال ميلاد" تقليديةً، على نحوٍ ما، في مجراها، إذ تُرك لبطلها أن يحكي عن طفولته وشبابه، وعن زواجِه من زينب، وعن والده المتوفّى وأخواته الأربع، وعن علاقته بالخبز ومتعته في عمله خبّازا، وعن التحاقه بالعسكرية ومحاولته الهروب والانتحار، وعن تفاصيل كثيرة أخرى. تُرك له أيضا، وهو العليم الوسيط، أن يحكي وينقل عن الآخرين في محكيّاته التي تتابعت، أمام شخصٍ قادمٍ عنده لتهيئة فيلمٍ عنه. يُخبره بكل شيء، بخصوصياتٍ شخصيةٍ جدا وحميميةٍ، ببذاءاتٍ تخصّه وتخصّ أصحابا له. يجلسان في بيته. يقطع سرودَه بأن يأخذ رأيه في أن "يبخّر" البيت، فقد تذكّر للتوّ أنه لم يفعل هذا اليوم (أي يوم؟)، وضيفه المستمع هذا جاء في موعد التبخير، ما سيكون فرصةً ليُريه بقيّة البيت. وإذا ما قيل إن في الرواية مواضعَ أسهب فيها الراوي في استرسالٍ لم يبدُ ضروريا أو كاشفا، فهذا صحيحٌ، غير أن ميلاد لا يحبّ "النوافذ المغلقة"، على ما يُخبِر جليسَه (ويُخبِرنا؟)، ويقول له "لا أعرف من أين أبدأ، ولكن عندما أبدأ الحديث لا يمكن إسكاتي". ورواية محمد النعّاس رواية كشفٍ وانكشاف، فضفضةٌ وكلامٌ بعده كلام، والراوي يعيش في مجتمعٍ قرويٍّ مغلق. ولذلك، ربما، يصير شيءٌ من التسامح مع هذا العيب المفترض مباحا.
تنتهي مرويات ميلاد، في قفلة هذا العمل، بأن يدعو المُنصِت إليه إلى أن يتذوّقا "خبزَنا"، ما يُضمر أن ما قرأه القارئ في أزيد من 300 صفحة كان عجينا لخبزٍ انتهى إعدادُه "الآن". ولعلّ أرفع ما في صنيع محمد النعّاس ما أفاض فيه الراوي عن الخبز وأنواعه وإعداده عجينا وتقطيعا وتجهيزا، بل ومذاقا في ما بعد. يقول "يمتصّ الخبز مشاعري ويجسّدها أمامي". وهذا مركزيٌّ في الرواية، إن عجين الحياة التي خاضها ميلاد، عندما كان يبحث عن رجولةٍ فيه، تبدو مستهدفة، يوازي إتقان عجين الخبز الذي تعلّم صنعتَه ثم شَغُف بها، "أشعر بسعادةٍ غامرةٍ عندما ألمس العجين وقد تغيّر ملمسُه كليا". أما عن زوجته زينب فحضورُها مركزي، غير أن فائضا من الجاذبية، والذكاء البليغ، أنك، في خواتيم الرواية، لا تعرف مصيرَها، وإنْ يخبر ميلاد محدّثَه بأنها نائمة. لا تقع على حقيقة إن كانت فعلا خانت زوجها مع مديرها في العمل أم لا. وبديعٌ من محمد النعّاس قوله، في محاورةٍ معه، أنه لا يعرف، إلى اليوم (!)، إنْ كانت قد فعلت هذا أم لا، ويضيف "لا يجدُر بي حقيقةً أن أعرف".. روايةٌ جديرةٌ بالقراءة حقا.