22 نوفمبر 2024
في تذكّر "أوسلو".. ثقافياً
تكتمل، الأسبوع الجاري، خمسةٌ وعشرون عاما على توقيع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق إعلان المبادئ مع إسرائيل، المشهور باسم اتفاق أوسلو. وهذه مناسبةٌ لاستعاداتٍ لمواقف النخبة الفلسطينية المثقّفة، الوازنة، منه، وهي مواقفُ حافظت على مسافاتها من حسابات السياسيين الفلسطينيين، ومن رهاناتهم الخائبة دائما. ليس لمجرّد احتفاظ المثقّف بحيّزه الخاص، وإنما أيضا لشعورٍ لدى المثقف الفلسطيني بوجوب الوضوح التام في لحظةٍ استثنائيةٍ، وتاريخيةٍ حقا. وأنت تكاد لا تقع على كاتب فلسطينيٍّ، مشتغلٍ بالفكر أو بالإنتاج الأدبي، أثنى على هذا الاتفاق، وقرّظه بحماسٍ ظاهر، أو أفرط في حِسبانه إنجازا كبيرا للشعب الفلسطيني. وقد صدرت مواقف منتجي الأدب والفنون الناقدة "أوسلو"، والرافضة له، عن شحناتٍ وجدانيةٍ، وطنيّة طبعا، غير مكترثةٍ أبدا بما هو سياسي. ولهذا جاء السّخطُ في ما أنجزوا وكتبوا وأبدعوا، رواياتٍ وقصائد وقصصا ومسرحياتٍ وأفلاما، على الاتفاق مطبوعا بجذريةٍ فطريةٍ، شعوريةٍ، ففلسطين كلها لأهلها، وهذا يكفي.
لم يكن المثقفون الفلسطينيون من منتجي الفكر والرأي والمعرفة أقلّ جذريةً ووطنيةً، لكن مجال اشتغالهم فرضَ لغةً أخرى، ومنظورا إلى الأمور مختلفا، اعتنى بشموليّة القضية في أبعادها المتنوّعة، وهو ما تسهُل ملاحظته أيضا، إلى درجةٍ عالية، لدى الشاعر أو الفنان الذي وجد نفسه مطالبا برأي أو تصوّر، يشتمل على موقفٍ سياسيّ، يقف فيه على ضفّةٍ أخرى للنهر الفلسطيني نفسه.
في البال هنا، وفي المناسبة المتحدّث عنها، ثبت تماما ما قاله المفكر عزمي بشارة في عام 1996 إن اتفاق أوسلو مربوطٌ، في نهاية المطاف، بالتزام طرفٍ واحدٍ به، وبتفسير طرفٍ واحد له، وبنيويا هو طرفٌ يجعل عملية السلام كل شيء، ومن هدف هذه العملية لا شيء. ويصلُح تفسير بشارة هذا لإيضاح أمرٍ يغيب كثيرا عند من يحترفون لعن "أوسلو"، وهو أن هذا الاتفاق لم تطبّقه إسرائيل، حتى الآن، تماما، ولم تلبِّ استحقاقاتِه كما هي. ولذلك يحسُن عدم إغفال أن سوءات "أوسلو" معلومةٌ، بل ويدري بها بعض الذين طبخوه أكثر من غيرهم، وأبرزُهم ياسر عرفات نفسه. وبالتأكيد، لا يعني هذا الكلام دفاعا عن خطوة الذهاب إليه، فلم يبالغ عزمي بشارة لمّا كتب، في عام 2004، إن هذا الاتفاق "كان كارثةً حقيقيةً للشعب الفلسطيني، وإنْ لا أستطيع أن أثبت أنه لو لم يوقّع لتطور الوضع بشكل أفضل". إنه بشارة نفسُه الذي يرى، بمنطق التفكير السياسي، في محاضرةٍ له في إبريل/ نيسان 2018، أنّ ثمّة جوانب إيجابيةً نجمت عن عملية أوسلو، حتى لو كان موقفنا من الاتفاق سلبيا، لا سيما أنه يشمل عودة قيادات فلسطينية إلى أرض الوطن، أهمّها عملية بناء مؤسسة وطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ... .
وصفُ الكارثة نفسُه أطلقه إدوارد سعيد على "أوسلو"، بوصفه الاتفاق الذي أدّت إليه مسيرة ما بعد مؤتمر مدريد. ومعلومٌ أن سعيد غالى كثيرا في لغته الانفعاليّة الشديدة الحدّة تجاه عرفات، بعد توقيع الاتفاق الذي رأى فيه، محقّا، "تنازلاتٍ مبالغا فيها"، غير أن انتقاداته ركّزت، غالبا، على سوء أداء المفاوض الفلسطيني، من دون موقفٍ جذريٍّ من فكرة التفاوض نفسها. ومع القيمة المهمّة للموقف النقدي الذي اتّخذه المفكر المعروف من "أوسلو" وعمليته ومفاوضاته، فإن مرافعته تلك كان في الوسع أن تُحرز نفْعا أجدى لو أنها تخفّفت من حمولاتها المتوتّرة.
وإذ جمع محمود درويش صفتيْه، شاعرا لامعا ومثقفا رفيعا، فإنه جمع أيضا في موقفه من "أوسلو" بين الوجداني، وقد عبّر عنه شعرا وفي غير صيغةٍ، والسياسي الذي يكترث بالمكسب والخسارة. وليس منسيّا أنه استقال من عضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فور الإعلان عن الاتفاق احتجاجا، وأشهرَ نقدا فكريا وسياسيا للاتفاق، في بيان استقالته الذي نشره، ومنه أن الاتفاق ليس عادلا، ولا يوفّر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته، وأنه حلٌّ إسرائيلي لمشكلاتٍ إسرائيلية. غير أن درويش أوضح، في الوقت نفسه، أنه لا يستطيع أن يقبل الاتفاق، ولا أن يرفضه لأن في ذلك مخاطرة تاريخية، وقال "لا يستطيع ضميري أن يتحمّل حرمان الشعب الفلسطيني من إمكانية حلٍّ ما، فكان هناك صراعٌ بين قلبي وعقلي، ...".
قصارى القول إن اتخاذ موقف ثقافي، وسياسي، من اتفاق أوسلو يتطلب جهدا أكثر من لعنِه وشتمِه.
لم يكن المثقفون الفلسطينيون من منتجي الفكر والرأي والمعرفة أقلّ جذريةً ووطنيةً، لكن مجال اشتغالهم فرضَ لغةً أخرى، ومنظورا إلى الأمور مختلفا، اعتنى بشموليّة القضية في أبعادها المتنوّعة، وهو ما تسهُل ملاحظته أيضا، إلى درجةٍ عالية، لدى الشاعر أو الفنان الذي وجد نفسه مطالبا برأي أو تصوّر، يشتمل على موقفٍ سياسيّ، يقف فيه على ضفّةٍ أخرى للنهر الفلسطيني نفسه.
في البال هنا، وفي المناسبة المتحدّث عنها، ثبت تماما ما قاله المفكر عزمي بشارة في عام 1996 إن اتفاق أوسلو مربوطٌ، في نهاية المطاف، بالتزام طرفٍ واحدٍ به، وبتفسير طرفٍ واحد له، وبنيويا هو طرفٌ يجعل عملية السلام كل شيء، ومن هدف هذه العملية لا شيء. ويصلُح تفسير بشارة هذا لإيضاح أمرٍ يغيب كثيرا عند من يحترفون لعن "أوسلو"، وهو أن هذا الاتفاق لم تطبّقه إسرائيل، حتى الآن، تماما، ولم تلبِّ استحقاقاتِه كما هي. ولذلك يحسُن عدم إغفال أن سوءات "أوسلو" معلومةٌ، بل ويدري بها بعض الذين طبخوه أكثر من غيرهم، وأبرزُهم ياسر عرفات نفسه. وبالتأكيد، لا يعني هذا الكلام دفاعا عن خطوة الذهاب إليه، فلم يبالغ عزمي بشارة لمّا كتب، في عام 2004، إن هذا الاتفاق "كان كارثةً حقيقيةً للشعب الفلسطيني، وإنْ لا أستطيع أن أثبت أنه لو لم يوقّع لتطور الوضع بشكل أفضل". إنه بشارة نفسُه الذي يرى، بمنطق التفكير السياسي، في محاضرةٍ له في إبريل/ نيسان 2018، أنّ ثمّة جوانب إيجابيةً نجمت عن عملية أوسلو، حتى لو كان موقفنا من الاتفاق سلبيا، لا سيما أنه يشمل عودة قيادات فلسطينية إلى أرض الوطن، أهمّها عملية بناء مؤسسة وطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ... .
وصفُ الكارثة نفسُه أطلقه إدوارد سعيد على "أوسلو"، بوصفه الاتفاق الذي أدّت إليه مسيرة ما بعد مؤتمر مدريد. ومعلومٌ أن سعيد غالى كثيرا في لغته الانفعاليّة الشديدة الحدّة تجاه عرفات، بعد توقيع الاتفاق الذي رأى فيه، محقّا، "تنازلاتٍ مبالغا فيها"، غير أن انتقاداته ركّزت، غالبا، على سوء أداء المفاوض الفلسطيني، من دون موقفٍ جذريٍّ من فكرة التفاوض نفسها. ومع القيمة المهمّة للموقف النقدي الذي اتّخذه المفكر المعروف من "أوسلو" وعمليته ومفاوضاته، فإن مرافعته تلك كان في الوسع أن تُحرز نفْعا أجدى لو أنها تخفّفت من حمولاتها المتوتّرة.
وإذ جمع محمود درويش صفتيْه، شاعرا لامعا ومثقفا رفيعا، فإنه جمع أيضا في موقفه من "أوسلو" بين الوجداني، وقد عبّر عنه شعرا وفي غير صيغةٍ، والسياسي الذي يكترث بالمكسب والخسارة. وليس منسيّا أنه استقال من عضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فور الإعلان عن الاتفاق احتجاجا، وأشهرَ نقدا فكريا وسياسيا للاتفاق، في بيان استقالته الذي نشره، ومنه أن الاتفاق ليس عادلا، ولا يوفّر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته، وأنه حلٌّ إسرائيلي لمشكلاتٍ إسرائيلية. غير أن درويش أوضح، في الوقت نفسه، أنه لا يستطيع أن يقبل الاتفاق، ولا أن يرفضه لأن في ذلك مخاطرة تاريخية، وقال "لا يستطيع ضميري أن يتحمّل حرمان الشعب الفلسطيني من إمكانية حلٍّ ما، فكان هناك صراعٌ بين قلبي وعقلي، ...".
قصارى القول إن اتخاذ موقف ثقافي، وسياسي، من اتفاق أوسلو يتطلب جهدا أكثر من لعنِه وشتمِه.