في الطُّهورِيَّةِ السياسية
لا يوجد اتفاق بين علماء الاجتماع في تعريف "الطُّهورِيَّةِ" في فضائها العام، والذي يشمل المجال الأخلاقي قطعاً، ويتعدّاه في أحيان كثيرة إلى المجال السياسي. يرى بعض هؤلاء أن ثنائية "الطاهر" (purity) و"المدنّس" (impurity) هما ما يصيغ "النظام الرمزي المشترك" (shared symbolic order) لدى جهةٍ ما، بحيث يكون الحفاظ على السلم والوئام والتماسك المجتمعي/ الأيديولوجي/ التنظيمي/ الحزبي في سياق "الهوية الذاتية" المفترضة (self - identity)، أو نسفهم، حصيلة مترتبة على تفاعل هذين المُعْطَيَيْنِ، أي "الطاهر" والمدنس". إلا أن هناك من علماء الاجتماع من يرى هذا التعريف قاصراً، وأن الأمر يتجاوز مسألة الحكم على "الهوية الذاتية" (الدين/ الثقافة/ الأيديولوجيا/ القومية/ الانتماء الحزبي ... إلخ)، التزاماً بها أم انحرافاً عنها. يقول هؤلاء إن التنافر الانطباعي الدائم بين مُعْطَيْيِّ "الطاهر" و"المدنّس" ينتج حالة من "البناء الأدائي" (performative construction) في "الهوية الذاتية"، وهو ما قد يقود إلى تسرّب افتراضاتٍ، قد تكون خاطئة، إلى القناعات والممارسات التي تؤطّرها "الهوية الذاتية"، إذ إنه لا يتم إخضاعها (أي الافتراضات) إلى التمحيص والتدقيق المطلوبين، من منطلق أنها مسلّمات. وبالتالي، وبسبب الالتزام الصارم غير الواعي بما يُزْعَمُ أنها مسلمات، قد ينتهي الأمر إلى تبسيط ظواهر معقدة، واختزالها في أحكام قيمية قطعية ومجرّدة، قائمة على ثنائيات تضادّية، سواء لناحية مشروعيتها أوعدمها، أم لناحية الاضطرار إليها أم لا. البوصلة هنا هي التحيز الذاتي، أو القناعة الصلبة المطلقة، لا القراءة العملية المستوعبة لمعطيات الواقع وإكراهاته.
فريق ثالث من علماء الاجتماع طوّر نظرية أطلق عليها اسم "نظرية الأسس الأخلاقية"، أو "العقل الصالح"، وتسعى إلى سبر أعماق "الأسس الفِطْرِيَّةِ المعيارية" لدى الإنسان. أحد إسقاطات هذه النظرية وجدت طريقها إلى الأيديولوجيا السياسية، ومن ذلك محاولة تفكيك مقاربات الأخلاقي واللاأخلاقي لدى تيارات أيديولوجية مختلفة، مثل الموقف من الشذوذ الجنسي مثلاً. واختلف أصحاب هذه النظرية حول ما إذا كانت الأخلاق متعدّدة، وقابلة للتطور، بمعنى أن تكون مرنة وبراغماتية في سياقٍ من المواءمات الدائمة مع الواقع، وهو ما ينفي عنها، في المحصلة، صفة الأخلاق "الفِطْرِيَّةِ المعيارية".
الطهورية السياسية كذبة كبيرة غير قابلة للوجود حتى دينياً، ولو كان الأمر غير ذلك، لما كان هناك داع لفقه الضرورات
بداية، لا يؤمن صاحب هذه السطور بوجود طهورية مطلقة في العمل السياسي، وإن كان يؤمن بأنه توجد طهورية في المبادئ والقيم والمواقف والأخلاق. مثلاً، لا يقبل من امرئ أن يكون، على صعيد المبدأ والموقف، ظهيراً لطاغيةٍ وللطغيان، أو لظالم وللظلم. كما لا يقبل من أحد أن يُبَرِرَ أيّاً من ذلك وَيُسَوِّغَه. ولكن، كثيراً ما يجد الناس أنفسهم أمام إكراهات فوق طاقاتهم، حينها يتطلب الأمر موازناتٍ قسرية بين المكاسب والخسائر، وبين المبادئ والواقع. أسطع مثال على هذا انخراط تيارات أيديولوجية في العمل السياسي، إذ تجد نفسها فجأة رهينة سياق صارم وقواعد لعبة لم تكن شريكة في صياغتهما. أمام هذه المعضلة، تبدأ صفوف التيارات الإيديولوجية بالتنافر والتفسّخ وتطفو على السطح خلافاتها. سيكون هناك من هم ملتزمون بمعطى "الهوية الذاتية"، أي الأيديولوجيا الصلبة، ولا يقبلون بأي مساوماتٍ بذريعة إكراهات الواقع. في العادة، يطالب هؤلاء بالسعي إلى تكييف الواقع ضمن النسق الأيديولوجي الذي يؤمنون به، بل وحتى دفع ثمن الثبات على المبدأ. المهم أن يبقى تيارهم وفياً لمبادئه وقيمه وقناعاته. في المقابل، سيكون هناك البراغماتيون الذين سيوجهون سهام النقد الحاد إلى "البناء الأدائي" في الافتراضات والمسلّمات الأيديولوجية، على أساس أنها غير واقعية، بل وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك، إلى حد التشكيك بصوابية الأسس التي انبنت عليها، وتنطلق منها، وبالتالي ضرورة تطويرها. وهناك صنف ثالث سيجادل لا في ضرورة تطوير الأفكار والمقاربات فحسب، بل وحتى بضرورة نسف أي أسسٍ أخلاقيةٍ أو قيميةٍ أو مبدئيةٍ في العمل السياسي. الصنف الأخير خطير، وهو لا يدخل في الإطار البراغماتي، بل ينبغي إدانته بالميوعة في الموقف وفقدان البوصلة الأخلاقية والأيديولوجية.
لا طهورية مطلقة في العمل السياسي، وإن كان يوجد طهورية في المبادئ والقيم والمواقف والأخلاق
ما سبق تأطير عام يشمل التيارات والأفراد من كل الخلفيات الأيديولوجية. وهي جدلية ليست محصورة في دين أو حضارة دون أخرى، ولا شرق ولا غرب، ولا في دول شمال وجنوب، ولا في دول متقدمة وأخرى متخلفة، ولا في عالم أول وعالم ثالث. هذه ظاهرة إنسانية. تجدها لدى التيارات اليمينية واليسارية والوسط في الغرب التي تضطر، عند وصولها إلى الحكم، إلى مواءمة أيديولوجياتها الصلبة والوعود الحاسمة التي كانت أطلقتها انتخابياً، فتبدأ الخلافات تدبّ في صفوفها، كما أشرنا سالفاً. ينسحب الأمر ذاته على عالمنا العربي، فكم مرّة قبل ليبراليون أن يكونوا أدواتٍ لدى العسكر والأنظمة القهرية؟ شهدنا ذلك، وما زلنا، في مصر والسعودية وغيرهما. كما شهدنا الانقسامات التي ترتبت على ذلك في صفوفهم، بين مبرّر على أرضية حسابات كثيرة، ورافض على أرضية المبدأ. أيضاً، كم مرّة تحالف يساريون مع أنظمة يصفونها بالرجعية والعميلة في سبيل إنجاح حساباتٍ وتحقيق مصالح ضيقة، فوقعت انشقاقاتٌ في صفوفهم بناء على ذلك؟ الشيء نفسه تجده عند إسلاميين انخرطوا، بدرجة أو أخرى، في مؤسسات الحكم، كما في المغرب أو تونس، فتحوّلت شعاراتٌ رنانةٌ كثيرة إلى تاريخ سحيق، والمبادئ التي كان يقال إنها راسخة رسوخ الجبال إلى أمور قابلة للأخذ والرد، بل وحتى أرضية للاتهام الداخلي المتبادل بالتشدّد أو المساومة، وتصبح الذرائعية شعاراً للمرحلة.
باختصار، الطهورية السياسية كذبة كبيرة غير قابلة للوجود حتى دينياً، ولو كان الأمر غير ذلك، لما كان هناك داع لأحكام وفقه الضرورات والنوازل. المشكلة أن بعضهم يفهم انتفاء إمكانية تحقيق الطهورية السياسية ضمن إكراهاتٍ ضاغطةٍ وجارفةٍ على أنها رخصة للمساومة على كل مبدأ أصيل وتبخيس كل قيمةٍ راقيةٍ وسحق كل موقف مشرف. أنا لا أتحدّث هنا عن ما يُخْتَلَفُ فيه وحوله بناء على أسس موضوعية (البناء الأدائي)، بل مما هو مقطوع فيه، نقلاً أو عقلاً أو خُلُقاً. ومن أضطر إلى إبداء مرونةٍ عندما يتعلق الأمر بالمبادئ والقيم والمواقف العليا الراسخة بهدف تحقيق مصلحة مشروعة، ودفع مفسدة أكبر في ممارسته السياسية، فإن عليه أن يتأكّد من أن لا يتعدّى ذلك إلى هدم أركان المبادئ والقيم والمواقف، أو إلى تسويغ التنازلات التكتيكية الاضطرارية وتجميلها، وجعلها أصلاً لا فرعاً. المبادئ الحاكمة، والقيم الناظمة، والمواقف المشرّفة، تدخل في الأخلاق المعيارية الفِطْرِيَّةِ التي لا تقبل تطوراً ينفي كنهها، أو يلغي جوهرها. والأصل في البراغماتية أن يكون عمادها محاولة الاقتراب من المثال، وتكييف الواقع ضمنه، قدر الاستطاعة، لا العكس. واستتباعاً، لا يكون تنزيل المثال على الواقع بهدف نسف الأول وإلغائه، وإنما بهدف إيجاد الصيغ والمواءمات اللازمة والممكنة لتحسين شروط الواقع القاهر، من دون الرضوخ له، ومن دون الاصطدام العنيف به.