في الحراك الطلابي وقضايا التحرّر والحرّية في أميركا
شكّل يوم 18 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) يوماً مفصليّاً في تاريخ الحركة الطلابية في الجامعات الأميركية، إذ استُدعيت الشرطة الأميركية لإنهاء اعتصام في إحدى باحات جامعة كولومبيا، واعتقِل أكثر من مائة طالب، ووصل عدد المعتقلين في مختلف الجامعات الأميركية إلى نحو ألفي طالب وأستاذ، وهذا ذكَّرَ الأميركيين بعام 1970، حين استدعت رئاسة الجامعة الشرطة، وقُتل أربعة طلاب في جامعة كينت في ولاية أوهايو، واندلعت مظاهرات واسعة حينذاك، وكان السبب رفض إرسال الجنود إلى فيتنام وكمبوديا، ومقتلهم هناك، وإيقاف الحرب. القضية هي ذاتها الآن، إذ نصب الطلاب خِيامَاً في جامعة كولومبيا مطالبين بوقف إطلاق النار في غزّة، ووقف كلّ أشكال التعاون الأكاديمي بين الجامعة وجامعات دولة الاحتلال، وطالبوا بسحب الأموال الخاصة بالجامعة من المعامل الداعمة لصناعة الأسلحة في دولة الاحتلال أو دعمها، وبالتالي، حراك الجامعات الأميركية هو من أجل قضايا تحرّيرية، خارجية، في فيتنام أو غزّة، وكذلك كانت تحرّكت الجامعات في الثمانينيات من أجل إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
الاحتجاج الطلابي، والشعبي العام، في أميركا لم يبدأ في 18 من الشهر الماضي، بل مع العدوان الصهيوني على غزّة بعد السابع من أكتوبر (2023)، ولكنّه توسّع إلى أكثر من 40 جامعة أميركية، وعشرات الجامعات في العالم؛ كندا، وأستراليا، وبريطانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وتركيا، واليابان، وفرنسا، ومصر، وسواها كثير. الأخطر بالنسبة للإدارة الأميركية ولمراكز القوّة فيها، وفي مجلسي الشيوخ والنواب، أنّ الاحتجاجات لم تعد مُقتصرة على جامعاتٍ، عادة ما تَشهد تظاهراتٍ تضامنية، بل إنّها تركّزت أولاً في جامعات النخبة، وامتدت إلى مختلف الجامعات، وليست تلك الليبرالية أو اليسارية؛ وبالتالي، تشعر الإدارة، ومعها دولة الاحتلال أنّ هناك إمكانية لحدوث تغيير كبير في الرأي العام الأميركي والغربي عامةٍ، وليس فقط في أوساط الطلاب وأساتذتهم، وهناك من يؤكّد أنّ الطلاب سينتهون قريباً من امتحاناتهم، وسيتفرّغون للقيام بتظاهرات ستتزامن مع عقد مؤتمر الحزب الديمقراطي الأميركي في أغسطس/ آب المقبل، وضدّ السياسات الداعمة لدولة الاحتلال في حربها على غزّة. إذاً، هناك مؤشرات لـ"ربيعٍ طلابي عالمي"، وليس فقط في أميركا، وإن كانت قضيته الأساسية تحرّر فلسطين، لا قضايا داخلية، ولكنّ شدّة القمع والتضييق على الطلاب طرحَت قضايا حرّية التعبير والنقد والصحافة، والحرّيات الأكاديمية، وبدأت التحليلات تتحدّث عن مكارثية جديدة، كما كانت في الخمسينيات ضدّ الشيوعيين، والتخويف من هكذا تهمة، وهذا سيُسهم في خلق رؤية فكرية جديدة يقودها الطلاب، وتتجه نحو قضايا التحرّر، وقضايا الحرّية في آن واحد. لقد بدأت أوساط كثيرة، في الولايات المتّحدة وخارجها، وفي منظّمات دولية حقوقية، تؤكّد أنّ هناك انتهاكات واسعة ضدّ الحرّيات في أميركا. إنّ توسّع المظاهرات، إثر اعتقال الطلاب في جامعة كولومبيا، وإلى جامعات أخرى، يشير إلى أزمة متصاعدة في الداخل الأميركي، وفي الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض، وسيستفيد الحزب الجمهوري من أجواء كهذه من أجل المعركة الانتخابية الرئاسية القادمة.
تعميق المخاطر التي تخشاها الإدارتان الأميركية والإسرائيلية يقتضي إنتاج سردية فلسطينية عربية تستفيد من التضامن العالمي مع غزّة
شعار "فلسطين حرّة من النهر إلى البحر"، إضافة إلى شعارات تطالب بإيقاف إطلاق النار والإبادة الجماعية في غزّة، هي أكثر الشعارات أهمّية ضدّ دولة الاحتلال، يتبنى طلاب الجامعات الأميركية مطالبها، وبالضدّ من السردية الصهيونية التي تزعم أنّ فلسطين هي لليهود، وأنّ العرب احتلوها، وأنّ المظاهرات معادية للسامية، وإذ يستقي الطلاب معلوماتهم عمّا يجري من وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ وسائل الإعلام، والقوات التلفزيونية بصفة خاصّة، تكرّر السردية الصهيونية. إنّ شعارات الحركة الطلابية الأميركية تؤسّس لسردية مناهضة للسردية السائدة، وهي تستقطب كثيرا من النخب الأكاديمية والثقافية والفنّية، وراح التضييق على الطلاب يستقطب القطاعات الشعبية، وتتعزّز الرؤية التحرّرية، وبالتالي، انتقلت قضية فلسطين إلى الداخل الأميركي، ولم تعد محصورة في غزّة، كما أرادت الإدارة الأميركية. ويسهم وجود منظمات يهودية طلابية، ومثقّفين يهود في إطار التحركات الطلابية أو داعمين لها، في تحطيم السردية الصهيونية، ويوضّح فشل زعمها إنّ المشكلة تكمن في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر. وجود هؤلاء اليهود، يوضّح أن قضية غزّة ليست متعلّقة بسلطة "حماس"، بل بوجود دولة احتلالية استيطانية، يجب تفكيكها ليتحرّر اليهود والفلسطينيون معاً، وليتمكّنوا من إقامة دولة، تجمع كلّ سكان فلسطين. الأمر السابق، يستدعي بدوره طرحاً فلسطينياً وعربياً لقضية اليهود في فلسطين والمنطقة العربية، باعتبارهم جزءا من المنطقة، وفي فلسطين، وسيكونون جزءاً من الدولة المستقبلية الجامعة لهما. إنّ وضوح الموقف، عربياً، من اليهود في فلسطين والعالم، مهمّ للغاية من أجل توسعة الرأي العام العالمي، الساعي لتفكيك الدولة الصهيونية. إذاً، وجود كتلة يهودية مناصرة لإيقاف العدوان على غزّة، ولأجل تحرّر فلسطين يَطرح، عربياً وفلسطينياً، ضرورة مقاربة جديدة للعلاقة مع اليهود، بعيداً عن عقلية الشيطنة.
يستقي الطلاب معلوماتهم عمّا يجري من وسائل التواصل الاجتماعي، لأنّ وسائل الإعلام، والقوات التلفزيونية بصفة خاصّة، تكرّر السردية الصهيونية
خافت إدارة دولة الاحتلال من "الربيع الطلابي" في أميركا؛ فشبّهه بنيامين نتنياهو بالحراك الطلابي في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، وأنّه سيُفضى إلى "فاشية جديدة"، وهذا بمثابة ضغط على الإدارة الأميركية لتمارس القمع ضدّ الطلاب، وفي الإطار ذاته، أعلن إيتمار بن غفير ضرورة تسليح الطلاب اليهود في أميركا لمواجهة "الإرهابيين" من الطلاب "المعادين للسامية"، ولليهود، وآخرين يُؤكّدون السردية ذاتها. عكس ذلك، ردَّ مثقفون يهود بأنّ الحراك الطلابي ليس ضدّ اليهود، بل هو ضدّ الصهيونية، وضدّ الإبادة الجماعية في غزّة. القضية هنا، أنّ الإدارة الصهيونية، ومعها الأميركية، تشعران بخطر الحراك الطلابي الأميركي، والعالمي، وبخطر انفكاك قطاعات من يهود العالم عنهما. إنّ تعميق هذه المخاطر يقتضي إنتاج سردية فلسطينية عربية تستفيد من التضامن العالمي مع غزّة، والمشكلة هي في تعدّد السرديات: شراكات مع دولة الاحتلال، دولتين، دولة واحدة، تنسيق أمني... إلخ، وفي الانقسامات الفلسطينية، وفي تلكؤ القيادات الفلسطينية عن مواجهة هذه المهمّة، وتزجية الوقت بما لا يسمح للفلسطينيين، ويعاكس رغبتهم، بعقد المجلس الوطني وتوسعة منظمّة التحرير الفلسطينية. وإنّ كلّ تأخير في ذلك، سيشكّل ضرراً كبيراً للقضية الفلسطينية، والاستمرار في تأجيل وقف العدوان على غزّة، وفي النهاية، لن يُستفاد من الحراك العالمي، والطلابي خاصّة، الذي أخاف الإدارتين الأميركية والإسرائيلية، اللتين تعملان على الالتفاف عليه، وإخماده أو تحويله قضايا داخلية محلية، نحو الدفاع عن الحقّ في التعبير، والحرّيات الأكاديمية، وهو ما يُحذّر منه بعض المحلّلين، وبالتالي، تظلُّ فلسطين مُحتلّة، وسكّانها معرضين لمختلف أشكال المظالم والحروب المستمرّة والترانسفير.