في الحاجة إلى ثقافة الأنوار
منذ عقود وطوال النصف الثاني من القرن العشرين، لم يتردّد دعاة الإصلاح في العالم العربي في الدعوة إلى ضرورة بناء ثقافة تنويرية ومتنوّرة في المجتمعات العربية. وقد عرفت أدبيات الدفاع عن ثقافة التنوير قفزةً نوعيةً في الثلث الأخير من القرن الماضي، تجاوز فيها المفكرون خطابات التنوير كما تبلورت في فكر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في كل من مصر والشام. وهناك اليوم شبه إجماعٍ على تحديث المجتمع والثقافة، باعتبار أن ثقافة التنوير تساعد في التمهيد لعمليات تشكّل مجتمع جديد، متصالح مع ذاته ومع العالم، وقادر، في الوقت نفسه، على مواجهة الفكر المحافظ وبناء المشروع السياسي الديمقراطي، ثم بناء مشروع التنمية والتقدّم.
وعندما انفجرت تظاهرات الحراك الاجتماعي، مَطالِع 2011 في كل من تونس ومصر، وشملت رياحها العاصفة بعد ذلك مختلف المجتمعات العربية، لم نكن نتصوَّر أنها ستتخذ المسارات التي صنعت، ولا أنها ستركب التداعيات التي لا تزال تقف وراء كثير من مظاهر الفوضى والارتباك، ومختلف صور التراجع التي تُحَدِّد اليوم سمات عالم عربي بلا أفق سياسي وواضح ومُحدّد، لا في موضوع علاقته بذاته، ولا في مستويات علاقته بالعالم وأشكالها. وتشير أوضاع العراق ولبنان وسورية، ثم أوضاع تونس والسودان والأوضاع في ليبيا، إلى أشكال الانهيار المتواصلة، الأمر الذي يضع مجتمعات هذه البلدان أمام مأزقٍ سياسيٍّ مفتوح على مخاطر عديدة، أبرزها التحدّيات المرتبطة بالانقسامات، وعودة الاستعمار والهيمنة الدولية والإقليمية إلى المنطقة العربية، وهي تتّخذ اليوم صوراً جديدة، وتستعمل آليات جديدة في السطو والهيمنة وبسط النفوذ.
نربط جوانب هامة مما أشير إليه بتصاعد مَدّ الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة، إضافة إلى جملة من العوامل التي تلاحقت، مُحدِثَة الطفرة التي حصلت في المشهد السياسي العربي. والإشارة هنا إلى الضربات القوية التي تلقتها التيارات السياسية القومية من الداخل والخارج، سواء من نمط الوعي الذي كانت تُبَشِّرُ به، وهي تتصدّر الأنظمة السياسية في كل من العراق وسورية، أو من أشكال تفاعلها مع القوى الإقليمية والدولية، في عالم لم تعد توجّهه لغة الحرب الباردة، بل أصبح محكوماً بمنطق المصالح ونزوعات الهيمنة والتعولُم، وما يرتبط بذلك من آليات وقواعد. كما واكب تزايد عنف بعض التيارات السياسية الظلامية التي توظف لافتة الإسلام لإصابة أهداف محدَّدة، وهي تياراتٌ إرهابيةٌ تخاصم العالم بمنطقٍ يُشَخِّص الخلاص من مختلف الشرور السائدة بنشر ألوية الإسلام وقيمه. وقد تزامن كل ما ذُكر مع التراجع الذي حصل في قلب أحزاب اليسار العربي، حيث أصبحت أغلب أحزابه لا تملك الحدود الدنيا المطلوبة في العمل السياسي، نقصد بذلك وضوح الهدف والمرجعية، وآليات التنظيم والتعبئة، التي يتطلبها العمل السياسي داخل المجتمع.
معركة التنوير في الثقافة العربية متواصلة، وما يجري تعميمه اليوم من مواقف عن مآلاتها يمكن أن يُفْهَم كآليةٍ من آليات المعركة المتواصلة
انتظمت العوامل المشار إليها باختزال، في سياق تاريخي انتعشت فيه تيارات سياسية شعبوية، مع توجّهات تتوخى تعزيز جيوب الثقافة التقليدية، ويدعمها إعلام يستخدم مختلف الوسائط الاجتماعية، لتعميم ثقافة مُحَافِظةٍ ومَسنودة بسجلٍّ من قيم الانغلاق والقَطْعِ مع مكاسب وفضائل عصرنا. الأمر الذي مَكَّنَ ثقافة النُّزوع الإسلاموي المحافِظ والمتحجِّر والمَرِن، في جميع أوْجُهِه من الحضور والانتشار. وقد حصل هذا، ضمن مناخ سياسي دولي وإقليمي غير متوازِن، الأمر الذي تَرَتَّبت عنه توافقات دولية غير مُعْلَنة، متوخية إيجاد مَخْرَج للمآزق التي حصلت، نتيجة لمختلف صوَر التحوُّل الجارية في المشرق العربي وفي العالم.
تخطّت شبكات التقليد عتبات واقعنا، واتجهت إلى اكتساح عوالمنا الافتراضية، منجزةً هيمنة غير مسبوقة على مجتمعاتنا وعلى متخيلنا، فقد مَكَّنَت الفتوحات التقنية في عالم التواصل من إبداع آليات تسمح بنشر (وتعميم) مواقف وتصوُّرات لا علاقة لها بالمشترك التاريخي الإنساني. فأصبحنا أمام شبكات تخترق الأمكنة وتستقطب التابعين من كل القارّات، حيث تجري عمليات نشر (وتعميم) تصوُّرات غريبة عن الإسلام والحرب، وأخرى عن الدنيا والآخرة وما بينهما.
يحقّ لنا أن نتساءل، ونحن نُعايِن التراجعات الحاصلة في المجالين، الثقافي والسياسي، في مجتمعنا وثقافتنا: هل أخفق مشروع التنوير العربي، بعد عقود من جهود الفكر الإصلاحي العربي، الهادفة إلى توطين قيمه في مجتمعاتنا؟ ما نلاحظه اليوم من انتكاساتٍ جارفة لقيم كثيرة اجتهد التَّنويريّون العرب، في عمليات تبيئتها وترسيخها في الثقافة والمدرسة داخل مجتمعاتنا، يعدّ، في نظر بعضهم، خير دليل على إخفاق مسار التنوير في الثقافة العربية. ويُبْرِز الذين يدافعون عن الإخفاق المذكور ما يلاحظونه اليوم من ظواهر في واقعنا، حيث تنتعش تياراتٌ سياسيةٌ وثقافيةٌ تميل إلى تمجيد التقليد والمحافظة، وترفع شعارات العودة إلى نماذج في الدولة والمجتمع والمعرفة والقيم، لا تناسب التحوُّلات التي انخرطت مجتمعاتنا في استيعاب جوانب مهمة منها منذ قرنين. كما يغفل الذين يردِّدون مثل هذه الأحكام أن معركة التنوير في الثقافة العربية متواصلة، وما يجري تعميمه اليوم من مواقف عن مآلاتها يمكن أن يُفْهَم كآليةٍ من آليات المعركة المتواصلة.
لعلنا نزداد تمسّكاً بقيم الأنوار عندما نعاين في مجتمعاتنا العربية كثيراً من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به
تُبرز مُؤَشِّرَات عديدة صُور الارتباك القائمة في أغلب المجتمعات العربية، سواء في أنظمة الدول وبنياتها، أو في مؤسسات المجتمع وتنظيماته السياسية والمدنية. نتبين جوانب من ذلك في أشكال التمزّق السياسي والاجتماعي القائم هنا وهناك، في بلدان المشرق والمغرب العربيين. كما نتبينها في أشكال الاضطراب المرتقبة، بناء على التحوُّلات الجارية وما تحمله من إشارات كاشفة عن غياب التوازنات المطلوبة، في مجتمعات تتطلع إلى الاستقرار والتنمية.
ولعلنا نزداد تمسّكا بقيم الأنوار عندما نعاين في مجتمعاتنا العربية كثيراً من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به، فندرك بصورة أفضل أهمية الانخراط في تعزيز هذه القيم وإعادة بنائها وتعميمها. وندرك، في الآن نفسه، أن حاجتنا اليوم لهذه القيم لا تمليها شروط خارجية، ولا تمليها إرادة نقل تكتفي بنسخ الجاهز، بل تحدّد حاجتنا الفعلية لهذه القيم، بكثير من القوة، شروط حياتنا الواقعية والفعلية، حيث يصبح توسيع فضاءات العقل والنقد والتاريخ داخل سياقات واقعنا الفعلي في مختلف تحوّلاته مجالاً للمعاناة والتوتر والجهد الذاتي الخلاق، فنتمكَّن من بناء القيَم والمبادئ التي تتيح لنا الخروج من مأزق موصول بإرث تاريخي، لم نتمكّن بعد من تشريحه ونقده، تمهيداً لإعادة بنائه بتجاوزه.