في الأوجه المتعدّدة لكرة القدم

03 ديسمبر 2022

برازيليون يلوحون بصورة بيليه في مباراة بلدهم وكاميرون في مونديال قطر (2/12/2022 فرانس برس)

+ الخط -

لا تخرج كرة القدم، والرياضة عموما، عن الشأن العام الذي ينشغل به السياسي، وإن كان الفصل بينهما، من الناحية الإجرائية، يبدو ممكنا نظريا، إلا أن العلاقة بينهما وثيقة، فلا تخلو أجهزة الحكم في أي دولة من وزارة أو مؤسّسة تهتم بمجالات الترفيه والرياضة. وربما كانت كرة القدم، ومنذ تحولها إلى الرياضة الشعبية الأولى في العالم، المجال الذي تجلت فيه النزعات السياسية المختلفة، بل وأصبحت، في أحيان كثيرة، علامة على مرحلة سياسية أو خيارات رسمية، فكرة القدم والوطن أصبحا متلازميْن، انطلاقا من الراية التي يستظل بها اللاعبون، مرورا بالقمصان التي تحمل الألوان المميزة للبلد الذي ينتمون إليه.

لم تعد كرة القدم في صورتها الحالية مجرد لعبة، وإنما هي تعبير عن مؤسّسات ضخمة، مثل "فيفا"، المنظمة الدولية الوحيدة، ربما، القادرة على إلزام الدول وأنظمة الحكم، على تنوعها واختلافها، بقوانينها الموحّدة، بل وفرض خياراتها في اختيار ممثلي اتحادات الكرة ضمن شروطٍ لا يمكن مجاوزتها، وتتدخل أحيانا لرفض قرارات وزارية تصدر في بعض الدول لحل هذا الاتحاد أو ذاك، أو محاولة فرض مسؤول معين عليه، من دون الانضباط للترتيبات التي تفرضها المنظمة العالمية. تترافق هذه القوة الجبارة التي تلازم المؤسّسات الكروية مع قوة اقتصادية هائلة تنبع من حاجة الشركات ومؤسّسات المال إلى تسويق السلع، فيما أصبحت كرة القدم، والرياضات الشعبية عموما، السبيل القويم للوصول إلى قلوب المشجّعين والجماهير الغفيرة التي تعشق اللعبة، وتنساق إلى تقديس النجوم ورفعهم إلى مستوى الأساطير.

وبفعل هذا الانتشار الواسع والتأثير الطاغي الذي تتمتع به كرة القدم، حصل التقاطع بين مجالات السياسة والاقتصاد والترفيه والثقافة. وهذا سرّ تحوّل تنظيم المناسبات الرياضية الكبرى، مثل الألعاب الأولمبية، وخصوصا كأس العالم لكرة القدم، إلى حدثٍ يرتقي إلى مستوى الكونية، ويُحدث أحيانا حالات من الصراع السياسي أو الثقافي بين الدول من أجل فرض رؤاها على مثل هذا الحدث الكبير. وإذا كان تاريخ كأس العالم في سنوات ماضية يروي قصص المحاولات الكثيرة لتحويل تنظيم الكأس العالمية أداة للدعاية، وأسلوبا للتحكّم في الجمهور العام الذي يهيم بحب هذه اللعبة، فالمنتخب الإيطالي الذي فاز بكأسي العالم 1934 و1938 تحت شعار الفاشية كان لاعبوه يبدأون وينهون كل مباراة بصرخة "تحيا إيطاليا"، وتحية الجمهور بأيديهم المرفوعة (التحية الفاشية). وفي ألمانيا النازية، كانت كرة القدم مسألة دولة وترسيخا للفكرة العنصرية عن تفوّق العرق الآري، فإن أنظمة الاستبداد زمن الحرب الباردة استغلت المناسبة نفسها لترسيخ أركان حكمها، فبعد فوز البرازيل بكأس العالم لسنة 1970 افتتح الديكتاتور العسكري الجنرال ميديتشي موجة من الاحتفالات الواسعة، وفيما كانت فرق الموت (اسكويداري دي مورتي) تحصد أرواح آلاف البرازيليين، وقف الطاغية أمام المصوّرين يحمل كأس العالم بين يديه، وهو يغدق الثناء والأموال على اللاعبين. وسنة 1978 كان نظيره الديكتاتور الأرجنتيني، الجنرال فيديلا، يبالغ في الاحتفال بفوز بلاده بكأس العالم التي نظمتها فيما كانت الاعتقالات والإعدامات الميدانية تتواصل في الشوارع.

كانت القضية الفلسطينية حاضرةً بين رايات الجماهير بوصفها الغائب الحاضر في وجدان كل مواطن عربي

وشهدت النسخة الحالية من كأس العالم رسائل أخرى موازية للمباريات التي تجري على الملاعب، فقد حاولت دول غربية فرض تصوراتها الثقافية وتمرير رسائل معينة عبر سعيها إلى فرض مفاهيمها المجتمعية التي ترفضها المنظومة القيمية العربية، وتعتبرها مما ينافي القيم الأخلاقية، ونجحت الدولة المنظّمة في فرض احترام قيمها ورؤيتها الثقافية والنأي بملاعب الكرة عن التوجّهات التي قد تسيء لمشاعر شعوب المنطقة برمتها. وفي المقابل، عرفت هذه الدورة حالة من التلاحم العربي لم تعرفه المنطقة من قبل، حيث نجحت جماهير الكرة العربية في إشاعة وحدة شعورية بينها خارج منطق الجنسيات الوطنية الضيقة، لتتسع نحو أفق قومي شامل، عجزت الحكومات العربية وجامعة الدول العربية عن أن تحقق تلاحما يماثله، أو على الأقل يحقق بعضا منه. وكانت القضية الفلسطينية حاضرةً بين رايات الجماهير بوصفها الغائب الحاضر في وجدان كل مواطن عربي يؤمن جازما بأن فلسطين ليست مجرّد أرض محتلة، وإنما هي تجسيدٌ مكثّف للطموحات العربية في التحرّر.

وبعيدا عن أداء المنتخبات العربية، فإن حدث تنظيم كأس العالم في دولة عربية، وهو ما قد لا يتكرّر في الأفق المنظور على الأقل، بالإضافة إلى نجاحها اللافت في الاستعداد للتظاهرة العالمية ثم تسييرها باقتدار، هو ذاته رسالة حقيقية تكشف أن المركزية الغربية المزعومة، والتي تحاول الاستئثار بمفردات الإنجاز، ليست سوى من قبيل الدعاية الفجّة التي اتضح زيفها. ويبقى من المهم تأكيد أن واجهات الصراع الثقافي والحضاري متعدّدة، ولا تقتصر على السياسة فحسب، وإنما تمتد إلى كل المجالات، حتى التي ينظر إليها بعض "المثقفين" باستخفاف، باعتبارها مجرّد لهو يشغل الناس، فيما هي في جوهرها تعبيرٌ مكثف عن توجّهات ثقافية وخيارات حضارية كبرى.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.