في أن تأتي متأخّراً
أن تأتي متأخّراً خير من ألّا تأتي أبداً.. مثل إنكليزي شهير، يصدُق كثيراً وينطبق في قضايا ومسائلَ مصيرية. وفي بعض دول العالم الثالث، ترتكب الأنظمة الحاكمة أخطاءً كثيرةً بسبب سوء التوقيت والتأخّر في الحركة. وما تقوم به السلطة في مصر تجسيد مثالي للخلل في منظومة صنع القرار واتخاذه. حيث صار البطء، وأحياناً غياب أيّ ردّة فعل، سمةً مُتكرّرةً في التعاطي المصري مع المُستجدّات التي تهدّد الأمن القومي المصري، وتتعارض مع المصالح المصرية العليا. فرغم أن أزمة سدّ النهضة الإثيوبي بدأت تطفو في سطح الأحداث في عام 2011، إلّا أنّها لم تأخذ مساراً خطيراً في المستوى العملي إلّا مع نهايات 2014، العام الذي تغيّرت فيه قيادة مصر، رسمياً في الأقلّ. وطوال العقد التالي لهذا التزامن المُريب، التزم الموقف المصري الرسمي نهجاً ثابتاً لم يتغيّر، وهو التفاوض، ثمّ التفاوض، ثمّ التفاوض. رغم انكشاف نيّات إثيوبيا بالمماطلة والتسويف وتجاهل مصالح مصر والسودان والإصرار على احتكار تفاصيل إنشاء السدّ وخططه، والانفراد بإدارته وتشغيله مستقبلاً. فكانت ردّة الفعل المصري محاولةَ الاستعانةِ بطرف ثالث، علّه ينجح في الضغط على إثيوبيا لمراعاة وجود دولتَي مصبّ لهما مصلحة مباشرة وكاملة في التحوّط ضدّ أيّ مخاطرَ محتملةٍ من السدّ، عاجلاً أو آجلاً. وبدا واضحاً من اللحظة الأولى أنّ ما من طرف ثالث سيدعم مصر أو يضغط على إثيوبيا.
ورغم ذلك، قامت القاهرة بمحاولات عدّة ومتكرّرة، بدأتها بالاتحاد الأفريقي، ثمّ مع مجلس الأمن، وبعده الولايات المتّحدة، ثمّ العودة إلى مجلس الأمن، وأخيراً الاتحاد الأفريقي، مرّةً ثانية. والمدهش أنّها لم تطرح القضية على جامعة الدول العربية، ولا حتّى مرّةً واحدةً (!)
المثير للتساؤل، بل وللارتياب في هذا النهج، أنّ مصر لم تفعل شيئاً بالمرّة لردع إثيوبيا عن الاستمرار في عمليات الإنشاء، ثمّ مباشرة مراحل ملء خزان السدّ، حتّى بلغت سبع مراحل في سبعة أعوام متتالية، واكتمل بناء السدّ وبدأ بالعمل. وأخيراً بدأت مصر تستيقظ وتستشعر الخطر من السدّ، بعد فوات أوان التحرّك. بالمثل، تقوم إثيوبيا منذ سنوات بتحرّكات واضحة تضرّ بمصالح مصر وأمنها في القرن الأفريقي. حتّى وصلت إلى حدّ الوجود العسكري المباشر في أراضي دولة الصومال، باتّفاق مشبوه وغير قانوني مع كيان انفصالي هو إقليم أرض الصومال، لتبرم مصر متأخّرة اتفاق تعاون عسكري مع الدولة الأم جمهورية الصومال.
وعلى المنوال ذاته، سكتت مصر أمام التهديد الحيوي المباشر الناجم عن الحرب الإسرائيلية الشرسة على قطاع غزّة، ثمّ تأخّرت كثيراً في مواجهة تمركز قواتٍ إسرائيليةٍ في الشريط الحدودي بين مصر والقطاع، محور صلاح الدين، المسمى إسرائيلياً محور فيلادلفيا. وهو ما شجّع تلّ أبيب على المطالبة بالبقاء في المحور، والمساومة على أيّ تخفيض لقواتها المنتشرة هناك، فضلاً عن استحداث ثماني نقاط مراقبة.
والأمثلة كثيرة على تأخّر مصر وبطئها في التحرّك العملي، وليس الكلامي الأجوف، لمواجهة مخاطرَ ومشكلاتٍ ربّما لم تكن لتظهر أصلاً لولا هذا التخاذل غير المُبرَّر بأيّ شكل. وليس ببعيد السكوت عن تعاظم قوّة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في السودان تحت سمع القاهرة وبصرها، حتّى أصبح مركزَ قوّةٍ وشريكاً في الحكم، وتمكّن من تفجير حرب أهلية، بسببها بات السودان مُقسّماً ومدمّراً.
أمام التهديدات الاستراتيجية، لا مجال للتأخّر ولا للبطء. والمجيء متأخّراً ليس أفضل بالمرّة من ألّا تأتي، بل حينئذ تجب مساءلة المسؤول عن ذلك سهواً أو عمداً، ومحاسبته وعقابه. وذاك هو الحدّ الأدنى الأقلّ من القليل.