في أجواء عرفات

13 نوفمبر 2017

حشد في مهرجان إحياء ذكرى عرفات في غزة (11/11/2017/Getty)

+ الخط -
وحده ياسر عرفات، من دون كل الفلسطينيين، من كان في وسعه أن يُقدم على مغامرة "أوسلو"، ويبقى على زعامتِه شعبَه، وتُصان مكانتُه الاستثنائية في وجدانهم، وكذا صفته أباً للوطنية الفلسطينية. لا حاجة إلى استدعاء مئات الشواهد على هذه البديهية، والمهرجان الحاشد في غزة، أول من أمس السبت، لإحياء ذكرى استشهاده، بمشاركة عشرات الآلاف، ينطق بأن الرجل ليس أي أحد. ولكن أخطر ما في الشحنات الرمزية والعاطفية التي يبثّها اسم أبو عمار أنها تصدّ محاولاتٍ مطلوبةً وملحّةً لاستعادة سيرته الكفاحية والسياسية بكيفيةٍ أخرى، بعيدةٍ عن الاحتفائية إياها، وعن المقادير غير الخافية من "الطقوسيّة" التي ضاعفت جرعاتِها الميتةُ الملتبسةُ التي قضى فيها عرفات، بالسم القاتل الذي يتواطأ الجميع، وفي مقدمتهم فلسطينيون معلومون، عن إشهار اتهامٍ واضحٍ لمن دسّه. بينما اشتغلت لجنةُ تحقيقٍ فلسطينيةٍ كثيراً، وأصدرت غير تقرير، ووصلت إلى نتائج مهمة، غير أن "مانعاً" ما ظل يعيق بقّ البحصة النهائية. وإذ اقتصرت المطالبات، في ذكرى الاغتيال، الأسبوع الجاري، بإعلانٍ جديدٍ أكثر تقدّماً في هذا الملف العويص، على معلقين في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن دون أن يقول أي مسؤولٍ فلسطيني، في أي منزلةٍ، شيئاً في هذا الأمر، فذلك مما يؤشّر إلى عملٍ جارٍ على "تمويت" القصة كلها، وإنْ قال بارزون في تلك اللجنة، غير مرة في أعوامٍ سابقة، إن الملف مفتوحٌ، ولن يتم إغلاقُه، وإنْ لم تؤيد فحوصٌ سويسريةٌ وفرنسيةٌ وروسيةٌ على رفات عرفات فرضية التسميم، الأقرب إلى الحقيقة التي تؤكّدها قرائن غير مقبوضٍ عليها تماماً.

لم يكن ياسر عرفات، في مهرجان غزة الحاشد، هو الموضوع، وإن كانت المناسبة ذكراه، وإنما "الوحدة والدولة" على ما تسمّى المهرجان. الرسائل السياسية والوطنية، وفي غير اتجاه، مع مقادير من المزاودة غير الخافية، كانت الأوضح والأبرز. بدا أن إجازة حركة حماس تنظيم هذا المهرجان، بل ودعمه، دليلاً تُشهره على صدق إرادتها المصالحة والمشاركة، وإنْ أجازت، قبل أيام من هذه التظاهرة، مهرجاناً نظّمه أنصار محمد دحلان، ما عنى أن ياسر عرفات مجرد استثمارٍ لغير طرفٍ في المشهد الفلسطيني التعيس. وهذا الرئيس محمود عباس يخاطب المحتشدين بكلمةٍ، يقول فيها المعلوم، والمعلن منه ومن غيره، من قبيل إن حل الدولتين أصبح في خطر داهم. ويتحدّث أيضاً عن المضي في مسيرة المصالحة، وصولاً إلى "سلطةٍ واحدةٍ وقانونٍ واحدٍ وسلاحٍ شرعي واحد"، وفي هذا الكلام ما يبعثر أمام قصة المصالحة هذه تشويشاً عليها، بل ما يرتدّ بها إلى أزمةٍ، تتولد عنها أزمات. والمقصد هنا هذا الحديث عن سلاح شرعي واحد، ما يفيد أن حسماً لم يحدث في ملف السلاح الآخر، سلاح المقاومة الذي لن تتخلى عنه حركة حماس (وغيرها).
ليكن مشهد حشد الفتحاويين وأنصار حركتهم في غزة جرعةً مضافةً إلى أجواء التفاؤل التي شاعت مع توقيع حركتي حماس وفتح اتفاق المصالحة بينهما، المبدئي، في 12 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وليكن محطةً مهمةً يمكن البناء عليها، للدفع باتجاه أجواء أكثر عمليّاتية، وأقل شعاراتيّة، طالما أن خطواتٍ سبقتها على قدرٍ من الأهمية، تحقّقت على صعيد إنفاذ المصالحة على أرض الواقع، وأن أجهزة الحكومة تسلمت سلطة الإشراف على المعابر، وطالما أن الرعاية المصرية لهذه الخطوات، ولما سيتلوها، دؤوبة، ويتم تقديرُها من طرفي التنازع المديد. وإذا ما اقتنعت "حماس" بأن "فتح" لن تصبح حركة مقاومةٍ إسلامية، وإنّ مضي زعاماتها في التمسك بخيار المفاوضات لن ينكسر، وإذا اقتنعت "فتح" وقياداتها بأن "حماس" من المستحيل إنهاؤها والقفز عليها وتجاوزها، إذا ما تلاقت هذه القناعات، وانبنت على تجريم العسف المتبادل، والعنف البغيض، والإقصاء المقيت، وقد جُرّبت شناعاتٌ مخزيةٌ من هذا كله في السنوات العشر الماضية، فإنه يصير ممكناً القول إن مصالحةً ستتم، وإن بيئةً فلسطينيةً مغايرةً لما عرفنا وشهدنا في سنوات عار الانقسام المخزي (وهذا من أقلّ نعوته المستحقة). وإذا كانت الإرادات ذاهبةً حقاً في هذا الاتجاه، وبتحرّر من اعتبارات الإقليم وحسابات هذه الدولة وتلك، لا غضاضة في التسامح بشأن التمسّح بدم ياسر عرفات، والتباري في استذكاره، وخلع المدائح له، بل لا غضاضة أيضاً في نسيان (ولو مؤقتاً وإجرائياً) ما صنعه كثيرون، من ناس هذا التباري، بالزعيم المغتال في أخريات أيامه.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.