في آفاق الحوار السعودي الإيراني
استكملت السعودية وإيران في الشهر الفائت (سبتمبر/ أيلول) محادثاتهما المباشرة الأولى بعد تولي إبراهيم رئيسي مهامه الرئاسية في إيران، بهدف حلّ المشكلات العالقة بينهما، عبر وساطةٍ عراقيةٍ حيويةٍ ومحورية، كانت قد بدأت منذ إبريل/ نيسان الماضي، حيث تزامنت بداية المحادثات مع مباحثات فيينا النووية الهادفة إلى عودة الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الأميركية عن إيران. لذا وبالعودة قليلا إلى بدايات الجولات السعودية - العراقية، نلحظ أنها كانت مصحوبة بقلق أوساط شعبية وثقافية وسياسية واسعة، نتيجة خشيتهم من توصل مباحثات فيينا إلى حلّ جميع المشكلات قبل استكمال المباحثات الإيرانية - السعودية، ما قد يمنح إيران أوراق قوة جديدة في مباحثاتها مع السعودية، فيمكّنها من فرض شروطها الكاملة، فهل ذلك صحيح؟
يوحي تزامن مباحثات فيينا (الملف النووي) وبغداد (السعودية - الإيرانية) زمنيا بترابطهما سياسيا واستراتيجيا، بمعنى أن تزامنهما ليس مصادفةً بحتة، وهو ما يمكن اعتباره مخرجا عمليا يحرّر إيران من حرج ربط التفاهم مع أميركا بحلّ النزاعات الإقليمية من ناحية، ويلبّي شروط رفع العقوبات الأميركية التي أعلنها الرئيس السابق، ترامب، من ناحية أخرى. وبالتالي، نحن أمام مسارين تفاوضيين، يهدفان إلى رفع العقوبات عن إيران، الأول في فيينا والثاني في بغداد، لا تشارك الولايات المتحدة في أي منهما بشكل رسمي ومباشر، وإن تميّز مسار فيينا بمشاركة أميركية غير مباشرة. وعليه، نتائج المساريين متكاملة، وغالب الظن متوازية، أي لن يعلن عن عودة الاتفاق النووي أو عودة العلاقة السعودية - الإيرانية على مراحل زمنية متباعدة. إذ لا يستند التفاوض السعودي - الإيراني إلى أوراقهما الإقليمية فقط، التي تميل نظريا، بشكل واضح، لصالح إيران، وإنما ترتكز المفاوضات على عوامل إقليمية ودولية تتعدّى قدرات كل من السعودية وإيران. وعليه، يبدو مسار بغداد معقدا ومتداخلا ومتشعبا كثيرا، ما يجعله مسارا صعبا أولا، وذا نتائج خطيرة ثانيا. ويسهل التكهّن بمدى تعقد مسار بغداد وربما طوله، بل يمكن ترجيح هذا أيضا من تصريحات رسمية عراقية وسعودية وإيرانية عديدة، كما في تصريح وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان "لا تزال هذه المحادثات في المرحلة الاستكشافية. نأمل أن تضع أساسا لمعالجة المواضيع العالقة بين الطرفين، وسوف نسعى ونعمل على تحقيق ذلك".
يبدو المطلوب من مسار بغداد رسم حدود التقاطعات بين الدول الفاعلة في الإقليم، بما يعكس مصالح النظم المسيطرة، ويحدّ من احتمالات الصدام والاشتباك فيما بينها
أما لجهة نتائج الاتفاق، فهي ما تحتاج إلى بعض التوضيح، وذلك عبر العودة إلى تحديد الفاعلين المباشرين وغير المباشرين في ثنايا الاتفاق الذي، كما أوضحت السطور أعلاه، يتجاوز كلا من السعودية وإيران، من دون التقليل منهما طبعا، ليطاول مصالح الدول الإقليمية المنخرطة في اتفاق إبراهام من الإمارات وصولا إلى الدولة الصهيونية، ومصالح هذه الدول، كما قد يطاول الاتفاق المصالح والرؤى الصينية أيضا؛ وفقا لتطور علاقات الصين ودورها بعد التراجع أو الانسحاب الأميركي إقليميا، فواضحٌ، في الحقبة الماضية، سيما في الأشهر الأخيرة، أن توجهات الولايات المتحدة الاستراتيجية عالميا تولي جلّ اهتمامها صوب المحيطين، الهندي والهادئ، من أجل معالجة الملف الصيني، وهو ما يترافق مع تعزيز دور حلفاء أميركا في سائر أنحاء العالم، ومنها دور الدولة الصهيونية في منطقتنا الإقليمية، كما جسّدته سياسات الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في صفقة القرن واتفاقيات إبراهام، وتابعه نظيره بايدن في المرحلة الراهنة، من خلال تعزيز هذه الاتفاقيات، وتعزيز دور الدولة الصهيونية الاقتصادي إقليميا، من بوابة الأردن ومصر تحديدا.
في حين ينذر انسحاب، أو بالأصحّ تراجع، الدور الأميركي إقليميا بتنامي الدور الروسي؛ الصيني؛ وبدرجة أقل التركي أيضا، وهو ما يضعنا أمام احتمالاتٍ معقدة قليلا، لكنها متشابهة من حيث محورية دور الدولة الصهيونية في حساباتهم. وعليه، لا تتعارض الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة مع توجهات خلفائها المحتملين في المنطقة، وهو ما يعزّز من احتمالات تصاعد دور الدولة الصهيونية إقليميا. طبعا هناك مؤشّرات تؤكّد ذلك، منها، على سبيل الذكر لا الحصر، بدء مباحثات ترسيم الحدود الصهيونية - اللبنانية، والصفقات المتبادلة السورية - الصهيونية بوساطة روسية، وجديدها صفقة اللقاحات المضادّة لفيروس كورونا، ومؤتمر السلام والاسترداد في أربيل.
ربما الاتفاق منجزٌ وجاهزٌ للتوقيع في بغداد وفيينا طبعاً، بانتظار اللحظة والشكل المناسب لإعلانه، لا أكثر ولا أقل
من ذلك كله، يبدو المطلوب من مسار بغداد رسم حدود التقاطعات بين الدول الفاعلة في الإقليم، بما يعكس مصالح النظم المسيطرة، ويحدّ من احتمالات الصدام والاشتباك فيما بينها، وبما يتجاهل مصالح شعوب المنطقة. وعليه أعتقد أن الاتفاق لن يطاول الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة، لاسيما في سورية والعراق ولبنان، بل قد لا يمسّ نفوذها في اليمن أيضا، في مقابل كبح مطامح التوسّع الإيراني، وهو ما سوف يمهّد الطريق أمام توافقاتٍ سياسيةٍ إقليميةٍ تعكس النفوذ الإيراني في كل من العراق ولبنان، وبدرجة أقل في سورية واليمن التي تتشعّب فيها مصالح القوى الفاعلة، ما يتطلب توافقا إيرانيا - روسيا - تركيا في الأولى، وإيرانيا- سعوديا- إماراتيا في الثانية. وبذلك يتم الحدّ من المخاطر الأمنية، والتقليل من احتمالات التصادم المتعدّدة، بما يشمل الصدام مع الدولة الصهيونية، كما يتم التأكيد على دور السلطات الحاكمة أمنيا وقمعيا على اعتبارها مصدر الشرعية الوحيد إقليميا، بغضّ النظر عن سلوكياتها وتجاوزاتها، وعن رغبات الشعوب ومصالحها.
ربما لا تختلف الدول الفاعلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في مسار بغداد على صورة الاتفاق العامة سابقة الذكر، في حين تبدو الخلافات مشتعلةً على رسم حدود الصلاحيات والنفوذ الإقليمي بدقة، لاسيما في المناطق ذات الفاعلين المتعدّدين، كسورية واليمن. كما قد يساهم الشق الاقتصادي في تأخير الإعلان عن الاتفاق، نظرا إلى ضخامة المطالب الصهيونية، وصعوبة إخفائها مستقبلا عن الرأي العام الشعبي، حيث لا تخفي الدولة الصهيونية مطامحها في لعب دورٍ اقتصاديٍّ محوري داخل الإقليم، وهو ما تبدو الظروف سانحة له اليوم بعد نجاح النظام السوري في تدمير اقتصاده المحلي، وتفتّت بنيته الاجتماعية. وفي ظل نجاح الاحتلالين، الأميركي والإيراني، في تدمير الاقتصاد والدولة العراقية، وبحكم تماهي الأنظمة المطبّعة سابقا وراهنا مع الأدوار الاقتصادية المطلوبة منها صهيونيا، على اعتبارها محطّات لتسويق السلع المصدّرة صهيونيا بشكل علني أو سرّي. وعليه، لا تتعلق نتائج مسار بغداد بنتائج مسار فيينا، بقدر ما يتعلّق الموضوع بصعوبة تنفيذ الاتفاق وتعقيداته اللوجستية، بل ربما الاتفاق منجزٌ وجاهزٌ للتوقيع في بغداد وفيينا طبعا، بانتظار اللحظة والشكل المناسب لإعلانه، لا أكثر ولا أقل، وهو ما توحي به التطورات الإقليمية السياسية عموما.