فيصل حوراني .. الرحيل على دروب المنافي
سيرة فيصل حوراني هي سيرة الفلسطيني في ترحّله الدائم في ديار الغربة وفي المنافي البعيدة والقريبة، فهو لا يستقرّ في مكانه، إلا ليرحل مجددًّا، فلا يترك وراءه إلا الحنين، حيث لا أصدقاء دائمين ولا عصافير ليقتنيها ولا قطط ولا أمكنة ليهجع فيها ولا نباتات؛ كله يذوي وييْبس وتذروه رياح الزمن. عاش سنوات عمره متقلقلاً كأنه على سريرٍ من شوك، وارتحل هنا وهناك كأنه يبحث عن وطن، فما وجد الوطن، ولا عثر على مكانٍ يريح فيه قدميه من وعثاء السفر. يقول: "ركبتُ إبل العرب وبغال الأتراك وخيل المغول وأفيال الهنود. تفرّجتُ على القرود وهي تتقافز بين الأشجار، وعلى الأفاعي وهي تتلوّى في سلال الحواة، وشهدتُ مَصارعَ ثيران وديوك. أنزلتُ سنّارتي تحت الجليد في نهر موسكو، وتجوّلت في سوق السمك في شاتيليه باريس، وراقبتُ بائعاته اللواتي يتحوّلن في الأماسي إلى بغايا. طفتُ في المتاحف ومعارض الفنون والمكتبات العظيمة (...). خبرتُ المدهشات حتى لم يعد شيءٌ يدهشني. فماذا بقي؟ لا شيء. وحكاية حكاياتي تتلخص في حاجتي إلى مكانٍ يخصني؛ مكان أشعر نحوه بالولاء، وأحسّ بأن فيه ما يخصّني" (الحنين: حكاية عودة، مؤسسة الدراسات المقدسية، القدس، 2004).
وعلى تلك الدروب المتعرّجة، شهد فيصل حوراني الأهوال كرُبّان إغريقي، وذاق مقادير من الحب بين ذراعي محبوبته. ومع ذلك، لم تهدأ مجاذيفه بحثًا عن جزيرته المتخيلة. كان يريد وطنًا ليهجع إليه، فكانت هجعته الأخيرة في المنفى، وضجعته الأخيرة في بلاده. هكذا عاش فيصل حوراني؛ مثل الطروسي بطل رواية "الشراع والعاصفة" التي كتبها صديقه حنا مينه. كان فارسًا، لكنه لم يمتطِ جوادًا، بل سفينة للعودة المتخيلة. بدأ حياته في ميدان الأدب، وكان الشعر والمقالة سلاحه. ففي الشعر والمقالة يستطيع الفلسطيني أن يصرخ، وفي الرواية يمكن أن يعيد بناء عالمه المتهدّم. لذلك، ربما، أنجبت فلسطين شعراء كبارًا من عيار إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وهارون هاشم رشيد وسميح القاسم وعز الدين المناصرة ومعين بسيسو وراشد حسين وكمال ناصر وفواز عيد ومحمد القيسي، وكان طربون الحبق بينهم جميعًا محمود درويش. وفي الرواية لمع جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإميل حبيبي وإبراهيم نصر الله، وكان جبرا هو المجلّي. أما فيصل حوراني فحار بين الأدب والسياسة والبحث والنقد، فصار مؤرّخًا وروائيًا وباحثاً وكاتب سيرة. وفي هذا الحقل يكاد يشبه غسان كنفاني في بعض صوره؛ فغسّان كان صحافيًا وقاصًّا وروائيًا ورسّامًا ومناضلاً. وقد كتب فيصل الرواية مبكرًا ("المحاصرون" – 1973، و"بير الشوم" – 1979، ثم "سلك اللجة" – 1983)، لكنه لم يروِ ولم يرتوِ، فانثنى إلى صوغ خماسية "دروب المنفى" التي جاءت ليست مجرّد سيرة فحسب، بل بحثًا في سوسيولوجيا القرية الفلسطينية وسوسيولوجيا اللاجئين، وجولة ممتعة في التاريخ والسياسة والفكر وأدب الرحلات.
على دروب التيه
ولد فيصل حوراني في قرية المسمية الصغرى في 23/3/1939، واضطرّ إلى اللجوء مع عائلته إلى غزّة في سنة 1948. وأصل عائلته يعود إلى حوران، وإلى عائلة المحاميد المعروفة. وقد توفي والده رشاد في 1940، أي قبل أن يُتم سنته الأولى، فأصبحت أمه أرملة وهي في الخامسة عشرة. وعلى عادات أهل القرى الفلسطينية، تزوّجت والدته بعد ثلاث سنوات، وبقي ابنها في كنف جدته. لكن جدّه عبد المجيد اضطر إلى بيع مسدسه وبندقيته، وغادر مع زوجته الشامية إلى سورية، وسكن في حي العمارة. وفي ما بعد، اصطحبه خاله إلى دمشق، فيما بقيت والدته في غزة. وتصرّمت الليالي والأيام وهو يقيم مع جدّه، ولم يتمكّن من أن يلتقي والدته، إلا في دمشق في سنة 1975، أي بعد 26 سنة. وخلال نحو نصف قرن، زارته والدته أربع مرات فقط في دمشق وبيروت وقبرص وعمّان.
كان فيصل حوراني يريد وطناً ليهجع إليه، فكانت هجعته الأخيرة في المنفى، وضجعته الأخيرة في بلاده
أُصيب بالرمد في بلدة حمامة الفلسطينية في سنة 1948، وعولج بحمض البوريك. لكن حال العين تفاقمت حتى عاد لا يستطيع الرؤية بها. وكانت لديه مشكلة في إحدى أذنيه أيضًا، فكان لا يرى جليسه إذا جلس إلى يساره، ولا يسمعه إذا جلس إلى يمينه. ويبدو لي أن حال فيصل هذه كانت تشبه حال جميع الفصائل الفلسطينية: لا أحد يسمع الآخر ولا أحد يرى غير نفسه في مرآة نفسه.
نشأ فيصل في دمشق متدينًا، فثابر على ملازمة مسجد بني أمية الكبير في قلب دمشق الجميلة. فدرس الدين في إحدى حلقات المسجد، وقرأ الأوراد عند القبور في مقبرة الدحداح، وصنع الأحراز لنساء حي القزّازين، ولم يتورّع عن العمل في مصبغةٍ لتنظيف الثياب وكيّ تجاعيدها. لكنه، في ما بعد، تحوّل إلى الفكر القومي التقدّمي ثم إلى الماركسية. وقد دخّن أول سيجارة في سنة 1956، وكان في السابعة عشرة. وفي دمشق، عاش بين نساء كثيرات، لكنه لم يكن مُنعمًا ألبتة. وعرف الحب أول مرة وهو في السابعة عشرة، حين أقام في نقاهة مخيم تل الزعتر بعد اقتلاع عينه التالفة وزرع أخرى صناعية في مكانها. وكانت سلمى، الفتاة الفلسطينية من مخيم البداوي، قد خضعت مثله لعملية زرع عين صناعية.
دمشق البدايات ودمشق النهايات
شبّ فيصل في دمشق في حقبة الغليان السياسي التي شهدتها سورية آنذاك: انقلاب وراء انقلاب، وقادة يسقطون ثم يعودون. أديب الشيشكلي، شكري القوتلي، خالد العظم، هاشم الأتاسي، الوحدة السورية – المصرية، الشيوعيون، البعث، القوميون العرب، القوميون السوريون، الإخوان المسلمون، حزب التحرير الإسلامي. واندمج ذلك الفتى الغرّ بأجواء الشام وحياتها السياسية الصاخبة آنذلك. وفي دمشق، شارك في أول تظاهرة له تأييدًا لكوريا ضد العدوان الأميركي. وانتمى، في بدايات رحلته السياسية، إلى تنظيم "عرب فلسطين"، وكان من المجموعة التأسيسية إلى جانب هايل عبد الحميد (أبو الهول) وأنيس الخطيب وصبحي عرب وآخرين. وهؤلاء اتفقوا، في البداية، على تأسيس حلقة فدائية باسم "صوت فلسطين" على غرار جمعية الكاربوناري (الفحّامون)، لكنهم لم يلبثوا أن غيّروا الاسم إلى "عرب فلسطين"، وكانت أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة. وفي 1957 انضم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وأبقى على عضويته السرّية في مجموعة "عرب فلسطين". وتلقّى التدريب على السلاح والمتفجّرات في جبهة التحرير الفلسطينية التي أنشأها أحمد جبريل. وقد انضم معظم أعضاء "عرب فلسطين" الذين لم يبلغ عددهم الأربعين إلى حركة فتح في ما بعد. ولعل فيصل تولّه بحبّ دمشق، وتدلّه بعشق هذه المدينة الساحرة، وافتتن بحاراتها وأزقّتها وشيوخها ووعّاظها ورجالها وأحزابها، وانغمر في شعابها الجذّابة، فكتب ما كتب عنها وعن الفلسطينيين فيها، خصوصًا أهل صفد وقراها المحيطة بها، والمتنافرة معها، ولم ينسَ المُلح الفلسطينية التي غمرت لغة التخاطب اليومية التي لم تخلُ من الفكاهات. وقد أفاض فيصل حوراني في الحديث عن صراع البعثيين والناصريين بعد حركة الثامن من آذار/ مارس في 1963، وعن محاولة انقلاب جاسم علوان على "البعث" في 18/7/1963، ثم الصراعات بين البعثيين أنفسهم بعدما تولوا السلطة، ومواقف البعثيين الفلسطينيين في ذلك الأتون المتفجّر، واستفاض في رواية أدقّ التفصيلات عن وضعه الخاص الذي انتهى إلى فصله من حزب البعث في سنة 1968 بذريعة خروجه على الخطّ السياسي للحزب، لكنه استمرّ في العمل في صحيفة "البعث" إلى أن أقيل في سنة 1971.
احتار بين الأدب والسياسة والبحث والنقد، فصار مؤرّخاً وروائياً وباحثاً وكاتب سيرة
وقدّم فيصل حوراني أفضل عرض وأعمق نقد لإعلام المنظمات الفلسطينية وسلوك قادتها في أوائل سبعينيات القرن المنصرم (راجع: دروب المنفى، الجزء الخامس). وقد سخر كثيرًا من ملصق أصدرته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في مناسبة ذكرى ميلاد لينين حين وُضع تحت صورة لينين كلام منسوب إليه أن إسرائيل هي دولة الرجعية والعدوان والتوسّع. وكانت عظام لينين قد صارت مكاحل منذ سنة 1924، أي قبل إعلان دولة إسرائيل بأربع وعشرين سنة (دروب المنفى، ص 98).
الهوية القلقة
كان فيصل يحدّد هويته، في بداياته السياسية والفكرية الأولى، أنه عربي فلسطيني. وبالتدريج، صار يقول إنه فلسطيني عربي. ولا أدري، على وجه الدّقة، كيف تدرّج من هنا إلى هناك، لكن المعروف عنه أنه مال إلى الشيوعيين وآرائهم، وإلى الفكر الماركسي بشكل أعمّ بعد أن لبث طويلاً في أفياء الفكر القومي العَلماني (فكر حزب البعث). وكان لصيقًا بكل من المحامي نبيه ارشيدات والروائي حنا مينه والقاص سعيد حورانية والطبيب منير حمارنة والناقد سعيد مراد، ومعظم هؤلاء شيوعيون. والهوية الفلسطينية العربية التي رسا عليها فيصل حوراني إنما هي اشتراك جميع الفلسطينيين في تجربة الفقد؛ فقدان البيت والأرض وشتات العائلات، وتدمير دورة الحياة الواحدة لسكان فلسطين. وكان إحساسُه باليتم عظيمًا، ولوّعهُ ابتعاد أمه عنه ولو قسرًا، ولم يعوض هذا الابتعاد الحنان الذي غمرته به جدّته وكذلك جده.
لم يعد فيصل حوراني مع مَن عاد إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو في عام 1993، وكانت هذه الحال تقضّ مضجعه؛ حالة الانشطار بين المنفى والتوق إلى العودة
في بيروت، عشنا في مدينة واحدة كغريب يدنو من غريب. وكانت لقاءاتنا مبعثرة، إما في منازلنا التي كان السجال يحتدم فيها وتعلو الأصوات، أو في شارع عفيف الطيبي ومتفرّعاته حيث تقع مجلة "فلسطين الثورة" ووكالة وفا للأنباء والإذاعة والدائرة السياسية، أو في صحيفة السفير التي صارت ملاذنا ومأوانا. وبعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في نهاية أغسطس/ آب 1982، بقي فيصل في بيروت مع مَن بقوا. وفي أحد الأيام، بينما كنت ذاهبًا إلى "السفير"، إذا به هابطًا منها إلى نزلة السارولا. وفوجئت به، وقلتُ له مندهشًا: أما زلتَ هنا؟ وكيف تتدبّر أمورك؟ فأجابني ضاحكًا: لدي هوية مزوّرة ربما تساعدني على التجول قليلًا. فحذرته من الركون إلى ذلك. وما إن ارتكبت مليشيا "القوات اللبنانية" مذبحة صبرا وشاتيلا، حتى حلّ بالمدينة خراب مخيف، وما عدتُ أراه. وعلمتُ أنه خرج من بيروت مع الفرنسيين الذين أمّنوا له طريقًا بحرية إلى قبرص. ثم التقينا مجددًا في القاهرة، في منزل الشاعر الفلسطيني وليد خازندار، وكانت معه زوجته باولا أدامز، وهي يهودية أميركية معادية لإسرائيل، فضلاً عن ابنته وزوجها المخرج السوري نضال الدبس. وحاولتُ أن ألتقيه في فيينا في منزل الصديقين فيولا الراهب ومروان عبادو، وتعذّر اللقاء لأسباب عملية.
لم يعد فيصل حوراني مع مَن عاد إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو في عام 1993، وكانت هذه الحال تقضّ مضجعه؛ حالة الانشطار بين المنفى والتوق إلى العودة، إلى أن تمكّن من العودة في 13/10/1995. وسافر مباشرة من أريحا إلى غزة، ومرّ بقريته المدمّرة المسمية، ورأى المدرسة التي أمضى فيها ثلاث سنوات، ولافته تشير إلى قريته التي ما عاد لها وجود. وفي غزة، التقى والدته أخيرًا في منزل أخيه رباح مهنا. لكن آل الحوراني لم يأتوا للسلام عليه، بل أرسلوا إليه ثلاثة أشخاص ليعاتبوه على نزوله في بيت آل مهنا، وكان عليه أن ينزل في منزول آل الحوراني! هكذا هي إذًا أحوال الفلسطينيين وعاداتهم وأعرافهم القروية التي ما برحوا متشبثين بها، مع أنهم باتوا لاجئين بلا أراضٍ ومن دون قرايا. وعلى دروب المنافي المتطاولة رحل فيصل حوراني في جنيف في 12/5/2022 عشية ذكرى النكبة التي شرّدته من وطنه، فيما كان يعالج أوجاعه لدى ابنته. أما علاج روحه الوثّابة فكان من المحال. فسلامًا لاسمك أيها الصديق.