فلسطين والاحتلال و"الجنايات الدولية"
بعد سنوات من المطالبات الفلسطينية، قضت محكمة الجنايات الدولية بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 تقع ضمن اختصاصها القضائي. وكانت المدعية العامة للمحكمة، فاتو بنسودا، قد أعربت عن اعتقادها بوجود ما يدعم مزاعم وقوع جرائم حرب إسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، إلا أنها أرادت أن تسأل المحكمة الجنائية عن المنطقة التي تقع ضمن سلطتها القضائية، إلى أن صدر القرار قبل أيام، بموافقة قاضيين ومعارضة ثالث.
رحبت السلطة الوطنية والفصائل الفلسطينية بالقرار، بما فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والجهاد الإسلامي، واللتين قد يطاولهما القرار مستقبلا بادعاء إطلاق صواريخ على المدن والتجمعات الإسرائيلية خارج حدود مناطق الاحتلال عام 1967. واعتبرت كل مكونات النظام السياسي الفلسطيني القرار انتصارا للعدالة وللحق الفلسطيني ونصرة للضحية والمظلوم، بعد أكثر من نصف قرن من البلطجة الإسرائيلية وشعورها بأنها فوق القانون وخارج دائرة المساءلة القانونية، ما شجّعها في جرائمها ومجازرها بحق الشعب الفلسطيني، وتمادي مشروعها الاستيطاني التهويدي الإحلالي، وما رافقه من عمليات تهجير قسرية بالقوة بحق آلاف الفلسطينيين، كالتي تحدث في الوقت الراهن في مناطق جنوب محافظة الخليل وشرقها، ومسافر يطا الممتدة من جبال الخليل غربا وحتى البحر الميت شرقا، وفي مناطق الأغوار الشمالية ومحافظتي طوباس وأريحا.
وقد تزامن قرار الجنائية الدولية مع حملة إسرائيل لتفريغ مناطق واسعة من الأغوار، وتهجير أصحابها الفلسطينيين الأصليين، ما يشكل رافعة للشعب الفلسطينيي لزيادة وتيرة الصمود ومقاومة قوات الاحتلال، ويشجع السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، كما مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية واليسارية الإسرائيلية والدولية، على مواجهة الإجراءات الإسرائيلية، وخصوصا أن من الملفات التي تحدثت عنها المدعية العامة ما يتعلق بتهجير المواطنين الفلسطينيين، ونقل يهود من داخل إسرائيل للاستيطان في تلك المناطق، والتي ترى فيها المدّعية العامة انتهاكا صارخا للقانون الدولي، وتشكل جريمة حرب، مثلها مثل إقدام إسرائيل مستقبلا على إعلان ضم تلك المناطق.
أعدّت إسرائيل خططا للعمل على الاتجاهات كافة، سواء للعمل على إلغاء قرار محكمة الجنايات الدولية وإسقاطه، أو لحماية قادتها والمستوطنين
ورفضت حكومة إسرائيل، ومعظم الأحزاب السياسية الإسرائيلية، قرار المحكمة الجنائية الدولية، وتعهدت بالعمل على كل الأصعدة لإفشاله وإجبار المحكمة على التراجع عنه، سواء بمنع لجان التحقيق التابعة للمحكمة من دخول الأراضي الفلسطينية، ومطالبة الولايات المتحدة بالضغط السياسي والمالي على المحكمة، أو تجنيد الدول والمنظمات الدولية الصديقة لإسرائيل للضغط على المحكمة، للتراجع عن القرار، كما تراهن إسرائيل على أن مدعي عام المحكمة، والذي سيحل محل بنسودا في يونيو/ حزيران المقبل، قد يلغي القرار، ويعيد الأمور إلى نصابها، وتدّعي إسرائيل أن القرار يتناقض مع القانون الدولي، بسبب أن مكانة السلطة الفلسطينية أقل من دولة، ولا سيادة لها على المناطق التي تم تعريفها في القرار، وأن السيادة عليها ما زالت بيد إسرائيل، كما أن إسرائيل تدّعي أن السلطة الفلسطينية خرقت اتفاقية أوسلو حين توجهت إلى محكمة الجنايات الدولية وطالبتها بالتحقيق بالجرائم الإسرائيلية، بسبب أنها التزمت في اتفاقية أوسلو بحل كل القضايا مع إسرائيل على طاولة المفاوضات بين الطرفين فقط.
على الرغم من رفض إسرائيل قرار الجنائية الدولية، إلا أنها أعدّت خططا للعمل على الاتجاهات كافة، سواء للعمل على إلغاء القرار وإسقاطه، أو لحماية قادتها السياسيين والعسكريين والأمنيين والمستوطنين. وذكرت صحيفة هآرتس العبرية، أول من أمس، (7 فبراير)، أنه وعلى الرغم من أن الإجراءات تستغرق فترة طويلة، إلا أن جهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلية (الشاباك)، قد أعد قائمة تضم مئات المسؤولين الإسرائيليين المحتمل استدعاؤهم للتحقيق، لمنعهم من السفر ومغادرة إسرائيل، خشية استجوابهم بعد رفض إسرائيل تسليمهم في حال استلمت طلبات الاستدعاء. وتخشى إسرائيل من تداعيات ميدانية لقرار محكمة الجنايات، ما سيؤدي إلى تصعيد غير متوقع. كما أخبر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، الحكومة بذلك، وبأنه بعث رسالة إلى كبار الضباط، تضمنت تداعيات القرار، حيث تخشى إسرائيل من أن يؤدي القرار إلى شعور الفلسطينيين بمزيد من الثقة بالنفس، والأمل بشرعية مقاومتهم الاحتلال والاستيطان في المناطق التي يشملها قرار الجنائية الدولية، طالما أن القانون الدولي يعتبر هذه المناطق محتلة، ويجيز للشعب الواقع تحت الاحتلال مقاومته. وباتت أوساط إسرائيلية تخشى من رفض جنود وضباط إسرائيليين تنفيذ التعليمات، خشية ملاحقتهم واعتقالهم مستقبلا، وهذه قضية خطيرة جدا، وتعد من أهم مركبات منظومة الردع والأمن القومي الإسرائيلي، إضافة إلى أن إسرائيل تخشى من مغادرة مستوطنين مستوطنات الضفة الغربية والقدس الشرقية، في وقتٍ أصبح الاستيطان مشروعا سياسيا أمنيا اقتصاديا ناجحا ومثمرا، وباتت أسواق دولية كثيرة، ومنها أسواق الإمارات، التي تستقبل بضائع المستوطنات، كما أن رجال أعمال أجانب، ومنهم إماراتيون، يستثمرون في المستوطنات، الأمر الذي قد يتوقف بعد قرار المحكمة، لخشية القائمين على تلك المشاريع من ملاحقة محكمة الجنايات الدولية بعد القرار.
الإدارات الأميركية المتعاقبة، كما حكومات إسرائيل، أصرّت على إبقاء التدخل الدولي في القضية الفلسطينية حكرا بيد الإدارات الأميركية الحليفة لإسرائيل
ولم يكن رفض الولايات المتحدة قرار "الجنائية الدولية" مفاجئا، لأنه سيمس بالتفرّد الأميركي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي يشكل ورقة مهمة بيد الإدارات الأميركية المتعاقبة لإحكام سيطرتها وقبضتها على المنطقة، وعلى أطراف القضية الفلسطينية، ما يفرض على الفلسطينيين تحديدا تحمل الكثير في سبيل إرضاء الإدارة الأميركية، طالما أن الأخيرة قادرة على ضبط السلوك الإسرائيلي ولجمه، وخصوصا أن الإدارات الأميركية المتعاقبة، كما حكومات إسرائيل، أصرّت على إبقاء التدخل الدولي في القضية الفلسطينية حكرا بيد الإدارات الأميركية الحليفة لإسرائيل، والتي وقفت ضد الحقوق الوطنية الفلسطينية، وشكلت غطاءً وحاميا لإسرائيل وإرهابها، كما أن الإدارة الأميركية تشعر بالقلق الكبير جرّاء قرار محكمة الجنايات الدولية باعتبار المناطق الفلسطينية المحتلة ضمن ولايتها القضائية، خوفا من ملاحقة جنود وضباط إسرائيليين عديدين من حملة الجنسية الأميركية، ارتكبوا جرائم حرب في المناطق الفلسطينية، إضافة إلى عديدين من حاملي الجنسية نفسها يسكنون مستوطنات الضفة الغربية، وأولهم سفير الولايات المتحدة ديفيد فريدمان، الذي يقيم في مستوطنة بيت إيل، ويعتبر من أكبر داعميها الماليين، والتحقت ابنته بالجيش الإسرائيلي في العام الماضي. وبالتالي، توجد أسباب كثيرة تدفع الإدارات الأميركية إلى القلق من القرار، خصوصا أن واشنطن ترى حتى في استجواب مسؤولين إسرائيليين إحراجا لها، طالما أنها حامية لهم. ولذلك تخشى الإدارة الأميركية من أن يضعها استجواب أي مسؤول إسرائيلي أو اعتقاله للمثول أمام المحكمة في موقع محرجٍ وضعيف، فمن ناحية لا تستطيع التزام الصمت وعدم الضغط على المحكمة بشتى الوسائل لإطلاق سراحهم، وفي الوقت نفسه يحرجها أمام الرأي العام الدولي أنها تقف في وجه القانون الدولي وتدعم الإرهاب، فيما ترفع شعار الديمقراطية الأولى في العالم، وتحاول محو آثار سياسات الرئيس السابق، ترامب، التي ألحقت تشوهاتٍ كثيرة في صورة الولايات المتحدة.
المشوار لا يزال بعيدا وطويلا، وبحاجة لمزيد من الإرادة السياسية للقيادة الفلسطينية للاستمرار في مشوارها الذي بدأته بعد المجزرة الإرهابية الإسرائيلية في غزة في العام 2014
مع أهمية قرار محكمة الجنايات الدولية اندراج الأراضي الفلسطينية ضمن اختصاصاتها، إلا أن الموضوعية تفرض عدم المغالاة بشأنه وعدم تضخيمه، وخصوصا تزامنه مع أسوأ مرحلة تمر بها القضية الفلسطينية، بعد انهيار جدار التضامن والدعم العربي الرسمي، بعد الانهيار الرسمي المتمثل بجملة اتفاقيات التطبيع والتحالف العربية مع إسرائيل، وشعور الأخيرة بأن القضية الفلسطينية انتهت، وسقطت من النقاش الإقليمي والدولي، وكذا تراجع المقاومة الفلسطينية بعد شيطنتها ووسمها بالإرهاب، ما شجع إسرائيل على تصعيد إرهابها ضد كل ما هو فلسطيني. إلا أن المشوار لا يزال بعيدا وطويلا، وبحاجة لمزيد من الإرادة السياسية للقيادة الفلسطينية للاستمرار في مشوارها الذي بدأته بعد المجزرة الإرهابية الإسرائيلية في غزة في العام 2014، وعدم الاكتفاء بالتوظيف السياسي لتحسين شروط بقاء السلطة مقابل التنازل والتخلي عن المتابعة القضائية في المحكمة الجنائية، والعمل على تجنيد كل المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والعربية والدولية، وحتى الإسرائيلية، والاستمرار في عمليات الرصد والتوثيق للجرائم الإسرائيلية لرفعها إلى المحكمة الجنائية، للتحقيق فيها، وجلب القادة الإسرائيليين إلى المحاكمة، بعدما أفلتوا عشرات السنين من العقوبة الرادعة.