فلسطين في "العربي 2"

21 نوفمبر 2023
+ الخط -

ليس خطابةً، ولا شعبويةً، القول إن اللحظة العربية الراهنة فلسطينيّة، ولا يمكن أن تكون لها صفةٌ غير هذه، إلا عند الذين ارتضوا أن لا ينتسبوا إلى أمّتهم، فهذا الدمُ الكثير الذي يسيح في كل قطاع غزّة، بفعل ما ترتكبه دولة الاحتلال المسربلة بالجريمة، هو الذي يعطي الصفة الفلسطينية للحظة العربية التي تذهب، لا بدّ، إلى أفقٍ آخر، وخيارٍ آخر، بعد أن تغادر غزّة المحنة المروّعة التي تغالبها الآن إلى انتصارها إن شاء الله. ولأن هذا الذي نقول من بديهيّ الحقائق التي يتعامى عنها قلّةٌ بين ظهرانينا، اختارت وسائلُ ووسائطُ إعلام عربيّة، تلفزاتٌ ومواقع وصحفٌ ومنصّات، أن تكون في الضفّة الصحّ، وانقطعت لخدمة جمهورها بالتعريف الصحّ بالذي يحدُث هناك، في قطاع غزّة، وبالذي يتعلّق به في غير عاصمةٍ وبلدٍ وإقليم. ولأن للحرب الإسرائيلية على الإنسان الفلسطيني وجوها كثيرة، ولأن الذي يُحدِثه في غزّة جنون الجيش الذي هزمته موقعة 7 أكتوبر الفدائية مفصلٌ عظيمُ المكانة في مسار هذه الحرب منذ نحو ثمانية عقود، لأسبابٍ مثل هذيْن وغيرِهما، يستحقّ الخيار الذي بادرت إليه قناة العربي 2، منذ أكثر من 40 يوما، تحايا غزيرة، وأكثر من تثمين، وهي القناة التي تختصّ بالثقافيّ والفنيّ والترفيهيّ والاجتماعي، فقد منحت المساحات الأعرض في برامجها، وفي عموم بثّها، لفلسطين، للألم الجاري في غزّة، ولآداب فلسطين وفنونها، قديمها وجديدها، ولتاريخ فلسطين وراهنها. 
لا يذهب هذا التقدير للقناة الناهضة إلى حيّز المجاملات النافلة، وإنما هو الظرفُ الساخنُ الذي نحن فيه، حيث غزّةُ ولا موضوع غيرها، يوجب (أقلُّه) تزجية تلك التحايا إلى الزملاء والزميلات في إدارة القناة وبرامجها المتنوّعة، وهم يجتهدون في اختياراتهم الموضوعات والمتابعات، ويتواصلون مع المعنيين بهذا الملفّ أو ذاك، بهذه المسألة أو تلك، بذلك النشاط أو ذاك. ومن قبلُ ومن بعد، يحسُن التذكيرُ بأن هذا الذي تؤدّيه "العربي 2" في هذه الأسابيع لا تكترث بمثله أيٌّ من الفضائيّات العربية الكثيرة، ولا تُنافسها فيه أيُّ واحدةٍ منها. وبهذا، يبدو هذا الجهد، الإعلامي والثقافي، على قدرٍ ظاهرٍ من الفرادة والخصوصية. وأظنّه هذا سببا كافيا للتحايا أعلاه.
يبدأ البرنامج اليومي "صباح النور" (الصباحي بداهة) بالجديد من جرائم المعتدين في غزّة، وبالجديد من أوجاع الغزّيين، وبالجديد من بسالة المقاومين. ويستضيف من هناك زميلا في رسالة إخبارية ذات طابعٍ إنساني غالبا، حيّة مباشرة. ويستضيف في الأستوديو زميلا صحافيا متابعا، وآخر في شأن إعلامي أو ثقافي، ويخصّص فقرةً للسينما الفلسطينية أو التي عن فلسطين، يتحدّث فيها صاحبُ الفيلم أو ناقدٌ عارف متابع. وفي هذه الفقرات كلها، يجتهد المذيع والمذيعة في المحاورة والنقاش، ليُضاء على المسألة موضع الحديث، فيستفيد السامع المشاهد عندما يتلقّى هذه الإحاطة، الجذّابة مشهديا، والتي تعدّ تنويعا خاصّا على الذي تضجّ به القنوات الإخبارية من عواجل واستضافات وأخبار وتقارير ورسائل آنية وصور متتابعة، تنويعا يولي ذلك البعد الذي يحسُن أن يُصان من الإهمال والنسيان.
جُرعة ثقافية وفنيّة وإعلامية، أخرى، بأداءٍ مختلف، وبجاذبيّةٍ ملحوظة، في "ضفاف"، البرنامج المسائي اليومي (باستثناء الجمعة والسبت) الذي يُلاحق الجديد من الأنشطة والفعاليات، الثقافية والفنية، الراقية والجدّية والجادّة، في البلاد العربية وأوروبا والولايات المتحدة (وغيرها أحيانا)، بالتركيز على فلسطين وغزّة، ونشاط مؤسّسات وهيئات وتجمعات ثقافية عديدة في تنظيم التظاهرات والندوات والمحاورات والمؤتمرات، بشأن فلسطين وآدابها وفنونها، وبشأن غزّة وآلامها. وليس من فضائية عربية تؤدّي هذا العمل الإعلامي الخاصّ، في لحظة غزّة الراهنة. 
وهذا البرنامج الجديد "مع فلسطين" (تقديم هبة شحادة) كل ثلاثاء، يعتني بالأبعاد الإنسانية في المشهد الفلسطيني العام، وفي غضون السخونة المشهودة في العدوان المتواصل على أهل غزّة. والبرنامج بمضمونه، وبالتنويع المشهديّ فيه، وبانتقالاته من ساحةٍ إلى أخرى، وبضيوفه من غير مكان، بادرةٌ مبتكرةٌ من "العربي 2"، ولا مبالغة في القول إنها تسدّ نقصا في المشهد الإعلامي الفسيح، سيما في غضون وطأة الجريمة الحادثة في غزّة. 
ولا يعني الإتيان هنا على البرامج الثلاثة تقليلا من كل جهدٍ آخر في القناة ذهب باتّجاه الموضوعة الفلسطينية، في برامج أخرى ("سيداتي وسادتي" و"مطالعات" مثلا)، فكلّه عملٌ  مقدّر بداهة، و"العربي 2"، من قبل ومن بعد، بخيارها ومشاغلها وطموحها، استثناءٌ مهمٌّ في خريطة الإعلام التلفزي العربي عموما.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.