فلسطين الصغرى والكبرى
كنتُ قد رأيته على شكل صورةٍ بالأبيض والأسود جابت العالم في حينها، مخيّم اليرموك، محاصرا، في العام 2014. ما إن رأيتُها حتى أيقنت أنها من الصور التي لا تمرّ سهواً على شاشة العين، وأنها لا بد ستقيم في الضمائر والأرواح. برغم الكثرة الكثيرة، برغم الإفراط والمبالغة في تصوير كل شيء، فثمّة صور فارقة شكّلت وتشكّل ألبوم الذاكرة البشرية.
يومها، كتبتُ معلّقة: سيل بشري يتجه نحو عدسة الكاميرا التي اتّخذت مكانا مرتفعا لكي تلتقط كل هذا الدفق. كأن الأبنية المبقورة في الخلفية وعلى الجانبين، دلقت أحشاءها هنا دفعة واحدة، فتدفّق السيل ضيّقا، وحين وجد له متّسعا، تجمّع موشكا أن ينقسم إلى كتلتين. الركام والبشر واحد، حجارة وحديد وملامح وعيون جمّدها الانتظار. الرؤوس مكسوّة كسوة الشتاء، والوجوه كالحةٌ كلحة القهر والذلّ والجوع. تبدو النساء أكثرية إلى يمين الصورة، في حين يغلب الرجال إلى يسارها. لكن الفرز ليس خالصا، وفي الزاويتين يزداد السواد كثافة، فيما تشخُص الوجوه بائسةً إلى ما لا نراه. صورة بالأبيض والأسود، كأنها من زمن آخر، زمن الحروب العالمية والمدن المدكوكة وقد سوّاها الطيران الحربيّ بالتراب. صور البشر التائهين وقد خرجوا من جحورهم يبحثون عن كسرة خبز، أو يتفقّدون أنهم ما زالوا على قيد الحياة. في عمق الصورة، تنهض سارية لحياة غارقة، شجرة مقصوفة لم يبق منها سوى الجذع، تصعد نحو سماءٍ لم تجد لها في المشهد مكانا، فابتعدت وصمتت. إنه مخيّم اليرموك ينتظر توزيع الإعاشة. هذا ما قيل. لكنّ الصورة تقول لنا: أنا لستُ صورة، أنا لحظة احتضار.
اليوم، تحرّكت تلك الصورة، نطق بشرُها وتكلّمت عيونهم وأجسادهم. عاش المخيّم الذي حوصر أهله وأُميتوا جوعا وقصفا. لم أكن قد شاهدتُ فيلم عبدالله الخطيب "فلسطين الصغرى". أخيرا شاهدتُه، ربما بسبب ما يجري في غزّة اليوم. كأني كنتُ أبحث عن شهاداتٍ أخرى تُظهِّر كل هذا الشقاء الفلسطيني. اوّل ما خطر لي أن أسأل: أيّهما الأكثر إيلاما: القصف الإسرائيلي أم القصف السوري؟ سؤال لا يُسأل، ربما. لكنّي ما استطعتُ منع نفسي من طرحه: بل إنه سيبقى يدقّ رأسي كمطرقة لا تكلّ.
مشاهد مخيّم اليرموك تذكّر بمعتقلات النازية ومعسكراتها. سجنٌ مفتوح. حصارٌ يُمنع خلاله دخول الأدوية والأغذية وأيُّ نوع من الرحمة. النظام الأسدي، حامي العروبة، خصّ الفلسطينيين بمعاملة استثنائية: براميل، قصف، تجويع، منع دخول أدوية ومساعدات، فيما المحاصرون يهتفون: واحد واحد واحد، فلسطيني سوري واحد! نعم، واحد في القهر، في الظلم، وفي التعرّض لأقسى أنواع البربرية والقتل.
عبدالله الخطيب حرّك الصورة التي علقت في ذهني. لم يأتِ من خارجها، كان فيها، في أحشائها ودمارها، بين أهلها وناسها. لذا، ثمّة ابتسامات، ونتف حياة، وجمل تطير كفراشاتٍ ملوّنة فوق الدمار، "نحن خلقنا تنعيش"، "كل غريبٍ للغريب نسيب"، "الشعب السوري كان طيب معنا"... ثم هناك ذاك البيانو وسط الدمار، والرجل الذي يعزف وقبالته شبّان يغنون: "الساعة عم تمشي"... والأطفال الذين يحلمون بالخبز، بعودة الشقيق من الموت، بسندويش شاورما... فالبطون الخاوية ليس فيها أكثر من حشائش ما زالت الأرض تمنّ بها على الجوعى. ومع ذلك، يعلّق الخطيب: "في الحصار، راقب نفسك جيدا، اهزم الشرّ الموجود في داخلك"! وتودّ لو تقول له، عن أي شرّ تتحدّث؟ الشر الذي يسقط عليكم براميلَ من السماء، ورصاصا ينهمر حين تجمّع أهل المخيم وقرّروا كسر الحصار؟
لا أعرف كم هلك من أهالي مخيّم اليرموك، لكن بعضَهم نجا بذاكرته، كما نجت تلك الصور التي ستبقى تطرح علينا السؤال: أيهما الأكثر بربرية: ما جرى أمس هناك، أم ما يجري اليوم هنا؟