فلتُسأل إيران عن جموح إسرائيل
نجحت إسرائيل في فرض التصعيد فرضاً على إيران ووكلائها الإقليميين. فطوال الأشهر العشرة، التي مضت منذ اندلاع حربها الشعواء ضدّ قطاع غزّة، حرصت على استفزاز إيران وأذرعها، واختلقت الذرائع للقيام بعمليات عسكرية محدودة ومحدّدة ضدّها. لكن حكومة بنيامين نتنياهو كانت مقيَّدةً طوال تلك الفترة بتدهور أوضاع قواتها في غزّة، فضلاً عن انخفاض الروح المعنوية لتلك القوات، وللقيادات العسكرية في مختلف المستويات. وكانت العمليات المحدودة التي توجّهها تلّ أبيب إلى حزب الله أو إلى الحوثيين في اليمن أو إلى مواقع وأهداف إيرانية في سورية، بمثابة اختبار، ليس لقوة وتماسك الدعم الإيراني لهذه الكيانات الممثّلة لإيران فقط، وإنّما أيضاً لمدى التزام إيران التفاعل العسكري، والتدخّل إذا تطلّب الوضع الميداني ذلك في تلك الجبهات، في أيّ مواجهةٍ مسلّحةٍ مع إسرائيل. خاصّةً أنّ إيران لم تنغمس في الحرب الدائرة في غزّة، بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة، بالقدر الذي كان متوقَّعاً في ضوء الخطاب التقليدي تجاه إسرائيل وممارساتها نحو الفلسطينيين، وذلك على الرغم من التأثير الهائل الذي كان سيحدثه انضمام طهران، أو أيٍّ من وكلائها إلى الفلسطينيين في الحرب مع إسرائيل، وخصوصاً في الفترة التي أعقبت مباشرة هجوم 7 أكتوبر (2023)، الذي أحدث هزّةً عنيفةً في تماسك إسرائيل العسكري فعلياً ونفسياً.
استقرأ العقل السياسي الإسرائيلي تلك الدلالات في سلوك إيران وخطابها. ولعلّ نتنياهو قد خرج بنتيجة واضحة مفادها أنّ طهران ليست في وارد خوض مواجهة شاملة مع إسرائيل، وأنّ خامنئي والنُخْبَة الحاكمة هناك، لديهم حرص بالغ على تجنّب التورّط في حرب ضدّ تلّ أبيب، حتّى وإن اضطروا إلى تغيير بعض قواعد الاشتباك المُستقرَّة بين الجانبين منذ أعوام عدّة.
ومع توالي اختبارات إسرائيل لإيران وأذرعها، وخصوصاً حزب الله، وتحرّشاتها به، تأكّدت تلّ أبيب أنّ لدى الحزب، ومن ورائه طهران، قدرةً عاليةً على استيعاب وامتصاص العمليات العسكرية والانتهاكات الأمنية والسياسية المتصاعدة. وحتّى في حال قرّرت طهران توسيع نطاق المواجهة وخوض حرب مع تلّ أبيب، تكون قد لبّت رغبة نتنياهو في إشعال تلك الحرب وخلط الأوراق في المستويات كافّة، فانفجار تلك الحرب هو بحدّ ذاته هدف مطلوب بشدّة لدى نتنياهو، ويبحث عنه حثيثاً منذ "السابع من أكتوبر" في أيّ جبهة.
لا يعني ذلك أنّ طهران ومجموعة وكلائها أبرياء، وأنّ الوزر كلّه تتحمّله تلّ أبيب، بل العكس هو الصحيح، لو أنّ لدى إسرائيل ولو قدر ذرّة من الشكّ بأنّ إيران، أو أيّاً من أذرعها، سيردّ ردّاً موجعاً، لارتدعت، ليس عن التصعيد الدموي ضدّ حزب الله فقط، بل لامتنعت قبل ذلك عن التنكيل بالشعب الفلسطيني وإبادة عشرات الآلاف منه في قطاع غزّة بلا ذنب. والحديث عن إيران لأنّها هي التي ترفع الشعارات، ويعلو صوتها بالجهاد والدفاع عن القدس والمُقدَّسات. أمّا غيرها، العرب تحديداً، فلا رجاء فيهم، ولا يمثّلون وزناً ذا قيمة لدى أيّ طرف، فقد رضوا واستكانوا وناموا، فلا يطلبون ما ليس لهم فيه رغبة، ولا يدّعون ما لا طاقة لهم به. ورغم ما في ذلك من خنوع مهين وانبطاح مشين، إلّا أنّ العرب في ذلك أكثر صراحة وأشدّ وضوحاً من بني فارس، الذين يقولون ما لا يفعلون. فيأتي بني صهيون ليفضحوهم ويكشفوا كذب طهران ونفاقها.
في السياسة، التحايل مطلوب، والمهادنة محمودة أحياناً. أمّا في المعادلات الصفرية، فلا حلولّ وسطا، إمّا أنت ضدّ العدو (إن كان حقّاً عدوّاً) قولاً وفعلاً، وإلّا فهو ليس عدوّاً، وأنت معه قلباً وقالباً.