فضح الاستبداد بين قمّتي تونس 2005 وشرم الشيخ 2022
مثلت استضافة تونس قمة الأمم المتحدة العالمية لمجتمع المعلومات في نوفمبر/ تشرين الثاني 2005 فضيحة دولية، للتعارض الصارخ بين الأهداف المعلنة لتلك القمة وممارسات السلطات التونسية تحت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي في مجال حرية الرأي والتعبير. هدف بن علي، عبر استضافة هذه القمة، إلى تدعيم مكانته الداخلية والدولية، وصرف الأنظار عن سمعة نظام حكمه في الاعتداء المنهجي على حكم القانون، والحقوق والحرّيات العامة، إلّا أنّ انعقاد القمة في تونس مثّل فرصة هامة لبدء حراك سياسي في تونس ضد الاستبداد، حيث دشّن أول إضراب جوع جماعي ذاع صيته دولياً، خاضته ثماني شخصيات سياسية وحقوقية من خلفيات سياسية متنوعة، من بينها حركة النهضة، وحزب العمال الشيوعي، والحزب الديمقراطي التقدمي، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والجمعية التونسية لمساندة السجناء السياسيين، سيكون لها تأثير نوعي في مراحل ما قبل ثورة الياسمين وبعدها. دفع هذا الإضراب والاعتداءات التي قامت بها السلطات التونسية على المجتمع المدني التونسي، قبيل انعقاد القمة إلى تغيب بعض رؤساء الدول الأوروبية، ووزير الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، عن حضور القمة، واضطر بعض المشاركين في المؤتمر إلى توجيه إدانات علنية لنظام بن علي في حضوره شخصياً في القمّة. ثم ساهم هذا الإضراب الذي بدأ في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، واستمر أسبوعين، في بروز توافق سياسي عريض بين القوى السياسية والمدنية داخل تونس وخارجها، حمل اسم 18 أكتوبر، اعترافاً بالقيمة الأدبية لإضراب الجوع الجماعي.
نتذكّر المثال التونسي، ومصر تستعد لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في شرم الشيخ في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني، في ظل أجواء استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في مصر، واستمرار حصار الحريات العامة والمشاركة السياسية في البلاد. فإلى أي مدىً يمكن أن تمثل هذه القمة فرصةً لحراك سياسي جديد لم تشهده مصر منذ مجيء عبد الفتاح السيسي إلى السلطة. لقد أقدمت الحكومة المصرية، منذ إعلان انطلاق ما عرف بالحوار الوطني، على بعض الخطوات المحدودة، لكنها هامة، تمثلت بقرارات الإفراج والعفو عن مئات من المعتقلين السياسيين، بينهم بعض النشطاء السياسيين والحقوقيين المعروفين، وتوّجت هذه الخطوات أخيراً بالعفو الرئاسي عن المحامي والمعارض السياسي زياد العليمي. لكن مصر ما زالت، في المحصلة العامة، جمهورية خوف. فطبقاً لمدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، حسام بهجت، استمرّت منذ شهر إبريل/ نيسان عمليات الاعتقال بالاتهامات السياسية المفبركة نفسها، على شاكلة الانتماء إلى جماعات إرهابية ونشر أخبار كاذبة، بحيث أصبح عدد المعتقلين الجدد خلال هذه الفترة أكبر من المفرج عنهم. واستمرّ تدوير المعتقلين على قضايا جديدة، للتحايل على قرارات إخلاء سبيل صادرة من النيابة والمحاكم، كذلك لم يكن هناك ضمانات لعدم اعتقال من أفرج عنهم هذا العام، كما جرى في اعتقال الناشطة آية كمال والناشط شريف الروبي مجدّداً. وما زالت منظمات حقوق الإنسان المستقلة تحت الحصار الأمني، مع خضوع كثيرين من أعضائها لإجراءات المنع من السفر، والتحفظ على الأموال والممتلكات.
الأطراف الدولية لا تُبدي اهتماماً بالضغط على السلطات المصرية لإحداث تحوّل نوعي في مجال الحقوق والحريات
واتضح، مع الوقت، عدم جدّية تعامل السلطات المصرية مع المبادرة التي أعلنها النائب محمد أنور السادات بخصوص عودة المصريين من المنفى الاضطراري أو الاختياري، فنشطاء مصريون كثيرون في الخارج راسلوا اللجنة القائمة على هذه المبادرة جرى تجاهل طلباتهم أو بُلغوا بعدم ضمان أمنهم الشخصي في حال عودتهم. من ناحية أخرى، لم تقبل السلطات مشاركة قطاع كبير من المجتمع المدني المستقل داخل مصر وخارجها في الحوار الوطني الذي ستبدأ أعماله في نوفمبر/ تشرين الثاني، على الرغم من الوعود السابقة بأن هذا الحوار لن يستثني أحداً. لقد تلقت السلطات المصرية خلال الشهر الأخير مطالب وعرائض دولية كثيرة مطالبة بتوسيع مساحة الحريات العامة، بالتزامن مع انعقاد مؤتمر التغير المناخي. ومن المتوقع أن تكون السلطات المصرية أمام معضلة تتمثل باضطرارها إلى استضافة وفود دولية كثيرة للمشاركة في المؤتمر، وعقد أنشطة موازية له في القاهرة وشرم الشيخ. وستضم هذه الوفود ممثلين عن جمعيات حقوقية عالمية منعت صراحة من زيارة مصر منذ وصول السيسي إلى السلطة، وقد تمنع السلطة دخول بعضهم مصر كما فعلت السلطة التونسية مع بعض المنظمات الدولية وقت انعقاد قمة المعلومات عام 2005. ذلك أن انعقاد المؤتمر في مصر يمثل فرصة للتعبئة الداخلية والدولية لتحسين حالة حقوق الإنسان في مصر، خصوصاً في ظل الدعوات الحالية للخروج في تظاهرات احتجاجية في مختلف أنحاء مصر، بالتزامن مع وصول الوفود الدولية رفيعة المستوى للمشاركة في قمّة شرم الشيخ.
ولكن الفرق شاسع من الناحية السياسية بين توقيت عقد قمة المناخ العالمي في شرم الشيخ وعقد قمة المعلومات في تونس عام 2005، فقد كان هناك اهتمام من المجتمع الدولي في السنوات الخمس السابقة على ثورات الربيع العربي بقضية الإصلاح السياسي في العالم العربي، كما شهدت بلدان عربية، من بينها تونس ومصر، بداية تشكّل حراك مدني وسياسي، سيتطور وصولاً إلى لحظة اندلاع ثورات الربيع العربي. لقد اتبعت السلطة في مصر سياسة الأمد القصير، تسعى فيها، عبر بعض الإجراءات والمبادرات التكتيكية، إلى امتصاص الاحتقان الداخلي، نتيجة تعثر الحالة الاقتصادية، وتحسين صورتها الدولية، لتيقنها أنها تحت الأنظار الدولية قبيل انعقاد قمة المناخ العالمي.
شاءت السلطة في مصر أن يكون الحوار الوطني بمثابة معبر آمنٍ للتعامل مع الأزمة الاقتصادية، والاستضافة الهادئة لمؤتمر المناخ العالمي
وعلى الرغم من هشاشة الوضعية السياسية حالياً للنظام الحاكم في مصر، إلا أن الأطراف الدولية لا تُبدي اهتماماً بالضغط على السلطات المصرية لإحداث تحوّل نوعي في مجال الحقوق والحريات، في ظل تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا. وعلى المستوى الداخلي، كان أقصى ما يمكن أن تتفاوض من أجله القوى السياسية، بعد سنواتٍ من تلقي الضربات الأمنية الحادّة، تحسين ظروف المشاركة في الحوار الوطني، والإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين.
كان المأمول في النصف الأول من هذا العام (2022) أن تتبنّى السلطة في مصر خلال التحضير لمسار الحوار الوطني إجراءات نوعية لبناء الثقة، ثم تنطلق عملية الحوار الوطني بمشاركة واسعة من القوى السياسية والمدنية داخل مصر وخارجها. لم تسر الأمور في هذا الاتجاه، وشاءت السلطة أن يكون الحوار الوطني بمثابة معبر آمنٍ للتعامل مع الأزمة الاقتصادية، والاستضافة الهادئة لمؤتمر المناخ العالمي. لكن المؤشّرات في مصر حالياً تدلّ على تزايد الشعور بالقلق وعدم الرضا من السياسات الاقتصادية والخارجية للرئيس السيسي من أطراف في النخبة السياسية المحيطة والقريبة منه. وما لم تتشكّل جبهة سياسية قوية تتّحد المطالب من خلالها، خصوصاً مع حلول موعد الانتخابات الرئاسية عام 2024، التي من المرجّح أنها لن تكون سهلة بالنسبة إلى السيسي، فأي أزمةٍ متوقعة للنظام الحاكم ستكون بين أطراف هذا النظام داخلياً، ولن تؤدّي، بالضرورة، إلى انفتاح حقيقي في مجال الحرّيات العامة أو بعودة البلاد إلى مسار سياسي ديمقراطي.