كيف تنظر فرنسا إلى القضايا العربية على أبواب الانتخابات الرئاسية؟

05 ابريل 2022

علم فلسطين في تجمع انتخابي للمرشّح الرئاسي جان لوك ميلانشون في باريس (20/3/2022/Getty)

+ الخط -

تُنظّم يوم الأحد 10 نيسان/ أبريل 2022 الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2022، التي يتنافس فيها 12 مرشّحة ومرشحًا، يتصدّرهم، بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وحزبه فرنسا إلى الأمام بـ 27% من الأصوات. تليه مرشحة اليمين المتطرّف، مارين لوبين، وحزبها التجمع الوطني بـ 22% من الأصوات. وفي المرتبة الثالثة، مرشّح اليسار المتشدّد، جان لوك ميلانشون، وحزبه فرنسا الأبية بـ 15% من الأصوات. ويتنافس على المركزين الرابع والخامس مرشّحة اليمين التقليدي "الديغولي"، فاليري بيكريس، وحزبها الجمهوريون، مع مرشّح اليمين المتطرّف المنشق عن التجمع الوطني برئاسة الصحافي الجدلي، إيريك زيمور، وحزبه الاستعادة، بـ 10.5% لزيمور و10% لبيكريس. ويأتي مرشّح حزب الخضر، يانيك جادو، في المرتبة السادسة بـ 5% من الأصوات؛ وهي الحد الأدنى الذي يسمح له باسترجاع تكاليف العملية الانتخابية من الأموال العامة. أما الشيوعيون والاشتراكيون والتروتسكيون وسواهم، فتتوقع الاستطلاعات أن يحصلوا على نسب منخفضة جدًا من الأصوات لن تبلغ 5%. 

القضايا العربية والانتخابات الفرنسية

تُشير التقديرات، في غياب الإحصائيات الرقمية الدقيقة عن نسبة الناخبين الفرنسيين من أصول عربية، حيث يمنع القانون الفرنسي إيراد الدين والإثنية في الإحصائيات، إلى أن عددهم يبلغ ما يقارب مليوني ناخب. في المقابل، تعزف أغلبية البرامج الانتخابية لمختلف المرشّحين عن الاهتمام، على نحوٍ واضح ومحدّد، بهذه "الجالية". كما أن الاهتمام بمسلمي فرنسا، وهم، إضافة إلى العرب، ينتمون إلى مكونات أخرى أفريقية وآسيوية، يبدو أيضًا محصورًا في مرشّح اليسار المتشدّد، ميلانشون، في العموم، وليس في الحملة الانتخابية تحديدًا. وفي حين لا يوجد في بلد علماني كفرنسا ما يمنع المرشّحين، مع استثناءات قليلة، من المرافعة أمام المجلس التمثيلي للمؤسّسات اليهودية في فرنسا (الكريف)، عارضين مشاريعهم الانتخابية، سعيًا إلى كسب أصوات أتباع الديانة اليهودية محدودي العدد مقارنة باتباع الأديان المختلفة الأخرى، فإن مثل هذا الأمر لا يتكرّر مع ممثلي أيِّ أديان أخرى في البلاد. ومن ثم، طبيعيٌّ أن ينعكس هذا الأمر على مواقف المرشّحين المختلفين من القضايا العربية، بعيدًا عن مشكلات الداخل الفرنسي وتعقيداته. وتعتبر مسألتا فلسطين والثورات العربية مقياسًا أساسيًّا لتقييم السياسات العربية لكل من المرشّحين الثلاثة الأبرز.

مواقف المرشّحين من القضية الفلسطينية

تميز الموقف الفرنسي تجاه القضية الفلسطينية من بقية الدول الغربية منذ أعلن الجنرال، شارل ديغول، عن موقف واضح مندّد بالاعتداء الإسرائيلي في عام 1967. وبعد أن حازت إسرائيل دعمًا لا مشروطًا وصل إلى تزويدها بتكنولوجيا صناعة القنبلة النووية فرنسيًا، تغير الموقف مع حرب حزيران/ يونيو 1967؛ إذ بدأ ديغول بالتقارب مع الدول العربية، ووصل الأمر بمؤيدي إسرائيل إلى اتهامه بمعاداة السامية. وفي عام 1974، اعترفت فرنسا بمنظمة التحرير الفلسطينية عضوًا مراقبًا في الأمم المتحدة. وفي عام 1982، عبّر الرئيس، فرانسوا ميتران، أمام الكنيست، عن تأييده قيام دولة فلسطينية. وقد أيّدت فرنسا عضوية دولة فلسطين في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام 2011، وصوتت أيضًا لصالح عضوية السلطة الفلسطينية مراقبًا في الأمم المتحدة في عام 2012. وبذلك، على الرغم من تكرار التأييد شبه الإلزامي لدولة إسرائيل وأمنها، حاولت الدبلوماسية الفرنسية أن تتبنّى موقفًا متمايزًا فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية.

عبّر ماكرون عن تأييده إسرائيل، مع الحفاظ على خطاب فرنسي تقليدي، يؤكّد لفظيًا حقوق الفلسطينيين الشرعية في بناء دولتهم المستقلة

وقد عبّر الرئيس الحالي والمرشّح الأوفر حظًا لولاية ثانية، ماكرون، في أكثر من مناسبة، عن تأييده إسرائيل، مع الحفاظ على خطاب فرنسي تقليدي، يؤكّد لفظيًا حقوق الفلسطينيين الشرعية في بناء دولتهم المستقلة. وفي موقفٍ متسقٍ مع طلبات "الكريف"، المقرّب من حزب الليكود الإسرائيلي اليميني، ما فتئ ماكرون يكرّر، في أكثر من مناسبة، أنه لا يجد فرقًا بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. وفي 20 آذار/ مارس 2022، وبحضور الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، أعلن ماكرون أن "معاداة السامية ومعاداة الصهيونية عدوان للجمهورية". وكان قد سبق لرئيس وزرائه، جان كاستيكس، أن صرّح أمام ممثلي "الكريف"، في عشائهم السنوي في 27 شباط / فبراير 2022، إن "القدس هي عاصمة أبدية للشعب اليهودي". وهو يناقض في ذلك قرارات الأمم المتحدة ومواقف الحكومة الفرنسية السابقة التي لم تعترف بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل.

من جهتها، ورثت مارين لوبين عن والدها، جان ماري لوبين، عبء موقفه المعلن بشأن المحرقة النازية التي اعتبرها في أحاديثه الصحفية مجرّد "تفصيل من التاريخ". كما أن الصبغة المسيطرة على التوجّه اليميني المتطرّف، الذي عبّر عنه حزب الجبهة الوطنية الذي أسّسه لوبين، هي معاداة السامية والأجانب، وذلك قبل أن يتحوّل إلى حزب التجمع الوطني برئاسة ابنته. ويعتمد اليمين المتطرّف أساسًا على قاعدةٍ جامعة تُختصر بالكراهية ضد الأجانب، واعتبارهم مصدر كل المشكلات الاقتصادية والأمنية. لكن مارين لوبين، منذ استلامها دفّة الحزب، وحتى قبل أن تعديلها اسمه، حاولت أن تُزيل الصبغة المتشدّدة التي ورثتها عن أبيها الذي ساهم في تعذيب أعضاء جيش التحرير الجزائري، حينما كان ضابطًا في الجيش الفرنسي محتلّ الجزائر. وسعت، بنجاح متفاوت، خلال السنوات الأخيرة، للتقرّب من "الكريف"، ومن ثمّ، التعبير عن دعم السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، على اعتبار أن الذين يقاومونها "إرهابيون وإسلاميون". 

يبقى موقف ميلانشون، رئيس حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدّد، أكثر المواقف توازنًا فيما يتعلق بقضية فلسطين من بين المرشّحين الأبرز للرئاسة

في المقابل، يبقى موقف ميلانشون، رئيس حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدّد، أكثر المواقف توازنًا فيما يتعلق بقضية فلسطين من بين المرشّحين الأبرز للرئاسة. وعلى الرغم من اقتراب مرشّحَي الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الجديد المعادي للرأسمالية أكثر من الوقوف بجرأة ووضوح إلى جانب الحقوق الفلسطينية، فإن نسبهما الضئيلة في الاستطلاعات لا تجعلهما محلّ اهتمام. وقد عبر ميلانشون، في أكثر من مناسبة، عن تأييده حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، من دون الخوض كثيرًا في تفاصيل السياسة الاستيطانية للحكومة الإسرائيلية، رغم إدانته الخجولة لها دائمًا. وكان قد غرّد في شهر أيار/ مايو 2021، إثر عدم السماح بتظاهرة تأييد للشعب الفلسطيني بمناسبة الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، قائلًا: "فرنسا هي البلد الوحيد في العالم، حيث التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، والتي تحتج على سياسات الحكومة اليمينية المتطرّفة الإسرائيلية ممنوعة". ولقد تسبب هذا الموقف في غضب "الكريف" عليه، والامتناع من ثمّ عن دعوته إلى العشاء السنوي الذي يُدعى إليه مختلف قادة الأحزاب الفرنسية الرئيسة. 

الثورات العربية ومسألة الديمقراطية

فيما يخصّ الثورات العربية، تبنّى الرئيس ماكرون سياسات سابقيه عمومًا، مع ميلٍ أكثر إلى ما أسماها "الواقعية السياسية" للتعامل مع مختلف الدول التي شهدت ثوراتٍ أو حركات احتجاجية، كسورية، ومصر، وتونس، وليبيا. أما بشأن الملف السوري، حيث سبق أن أيد الرئيسان، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، المعارضة السورية بنسب متفاوتة، فقد تعامل الرئيس ماكرون معه بالأسلوب نفسه بداية، لكن مع اهتمام أقل. وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا في نهاية شهر شباط/ فبراير 2022، كاد الإليزيه، تحت ضغط دولة الإمارات، أن يُعيد النظر في مقاطعته النظام السوري. كما التقت فرنسا مع الإمارات في دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، وانقلاب الرئيس قيس سعيّد على الدستور في تونس، إضافة إلى تعزيز "الشراكة" الاستراتيجية مع مصر بعد انقلاب عام 2013. ولقد أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا، والموقف الدولي الموحّد ضده، إلى توقف هذا التوجّه أو على الأقل تأجيله، فالمدرسة الواقعية التي تبنّاها ماكرون ومهّد لها وزير الخارجية الأسبق، هوبير فيدرين، الرافض إقحام القيم وحقوق الإنسان في العلاقات الدولية، كانت أيضًا قد بدأت في التأثير بوضوح في بعض المواقف المرتبطة بالملف السوري وسواه من قضايا المنطقة العربية. وقد ساهم تدهور العلاقات مع تركيا ورئيسها، رجب طيب أردوغان، في توجيه المواقف الفرنسية في الشرق الأدنى، وخصوصًا في مناطق "الاشتباك" السياسي مع أنقره فيها. ويعدّ وقوف الحكومة الفرنسية مع الثورات المضادّة، على الأقل في كل من تونس ومصر وليبيا، مؤشّرًا على إعادة إنتاج النموذج التقليدي المتمثل بتشبث الغرب بالقادة المستبدّين في دول الجنوب، على أن يؤمّنوا للغرب الحماية من الإرهاب ومن الهجرة غير الشرعية، ويحافظوا على الاستقرار المزعوم. 

تقف مارين لوبين موقفًا متطرّفًا تجاه الثورات العربية، لارتباطها العضوي باليمين المتطرّف الأوروبي الذي لطالما دعم المستبدّين في المنطقة العربية

ابتعدت مارين لوبين، مرشّحة اليمين المتطرّف ورئيسة حزب التجمع الوطني، عن الخوض كثيرًا في الملفات الخارجية، إلا أنها دعمت مواقف الرئيس عبد الفتاح السيسي، المعادية لتيارات "الإسلام السياسي" في مصر وفي ليبيا. وهي أيضًا تقف موقفًا متطرّفًا تجاه الثورات العربية، لارتباطها العضوي باليمين المتطرّف الأوروبي الذي لطالما دعم المستبدّين في المنطقة العربية، وعلى رأسهم بشار الأسد. ويتبنّى هذا التيار، استنادًا إلى نظرة فوقية وعنصرية، طرحًا فحواه أن العرب والمسلمين غير مهيئين للديمقراطية، ومن ثمّ من الواجب دعم حكامهم المستبدّين. إضافة إلى ذلك، تقترب الأحزاب اليمينية المتطرّفة في أوروبا، وعلى رأسها حزب التجمع الوطني الفرنسي من مواقف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتقيم علاقاتٍ وثيقةً معه، لم يتم تجميدها إلا بعد غزو أوكرانيا. لكن هذا الأمر لن يدوم على الأرجح؛ فقد صرّحت لوبين، أخيرا، إنه "في حال توقفت الحرب في أوكرانيا فإن روسيا يمكنها أن تكون بلدًا حليفًا". 

ويكتنف مواقف ميلانشون، المولود في مدينة طنجة المغربية، غموض وتناقض واضح من قضايا الديمقراطية في العالم العربي، فهو معجب بالتجربة المغربية على الرغم من السياسات النيوليبرالية التي تتبنّاها، إضافة إلى امتناعه خصوصًا عن الإشارة إلى الانتهاكات التي ترصدها المنظمات الحقوقية فيما يتعلق بحرية التعبير واعتقال الصحافيين. وقد أعلن إنه سيزور المغرب، في حال انتخابه رئيسًا، في أول زيارة له إلى بلدٍ أجنبي. وفي تناقضٍ واضح، يتقرّب من اليسار التونسي، وخصوصًا حزب الجبهة الشعبية ورئيسه، حمّة الهمامي، ويتبنّى مواقفه المتعلقة بحركة النهضة وإقصاء كل المكونات الإسلامية بلا تمييز من المشهد السياسي التونسي.

 يلتقي مرشّح اليسار المتشدّد جان ميلانشون ومرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبين في الإعجاب بالدور الروسي

وفي الموضوع السوري، لم يتوقف ميلانشون عن اعتبار أن الأزمة السورية لا علاقة لها بمبادئ العدالة والحرية، بل بأبعاد جيوسياسية مرتبطة بالطاقة وخطوط نقلها. وهو يؤيد الفصائل المسلحة الكردية، ويرى أنها الحليف الوحيد المناسب للغرب في سورية، كما أيد التدخل العسكري الروسي المباشر هناك، على اعتبار أنه موجّه ضد "الإرهابيين الإسلاميين"، واعتبر أن بوتين "قد نظّف مدينة حلب من الإرهابيين"، حينما قصفتها طائراته في عام 2016. وهنا يلتقي ميلانشون ولوبين في الإعجاب بالدور الروسي نفسه. وما ابتعادهما عنه، في الأيام الأخيرة إثر اجتياح أوكرانيا، إلا ترجمة لسعيهما لعدم خسارة الأصوات في الانتخابات، وليس عن قناعة أبدًا.

خاتمة

تشير كل استطلاعات الرأي إلى احتمال فوز الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهذا إن حصل الأرجح أن تكون ولايته الثانية مريحةً نسبيًا في التعامل مع الملفات الخارجية الصعبة، وخصوصًا منها الصراع العربي – الإسرائيلي، والموقف من التدخل الروسي في المنطقة العربية، والذي طالما غضّ الطرف عنه. وقد وفرت مواقفه الأخيرة في إدارة أزمة أوكرانيا هامشًا مريحًا له، سيساعده في الابتعاد عن محاولاته السابقة إقامة علاقة تعاونٍ وثيقة مع موسكو. في نظام السنوات الخمس المعمول به لكل ولاية في فرنسا، تكون الأولى منهما مخصّصة للفوز بالثانية؛ ما يجعل المواقف والسياسات المرتبطة بقضايا الداخل والخارج مصمّمة أساسًا لإعادة الانتخاب. وبالنتيجة، يُنظر إلى الولاية الثانية للرئيس على أنها الفترة التي يمكنه فيها أن يظهر "سياسته الحقيقية" بعد التحرّر من المتطلبات الانتخابية.