فرط التفكير وفرط الألم
السيدة المتوثبة القلقة، متعدّدة الاهتمامات ذات الحساسية المفرطة، سريعة التأثر بما يدور من أحداث، تقرأ روايات وسيرا ذاتية كثيرة، وتشاهد الأفلام السينمائية بشغف، وتحبّ الموسيقى الكلاسيكية والأغنيات الرائجة، ولا تكفّ عن متابعة الأفلام الوثائقية التي تحكي قصص الجرائم والقتلة المتسلسلين وتاريخ المشاهير. وتهتم، بشكل خاص، بمواضيع الأديان والفلسفة والميثولوجيا، ولا تتوانى، في الوقت نفسه، عن مشاهدة مقاطع فيديو مضحكة وتافهة مبثوثة على تطبيقات مختلفة. وتتصفّح منشورات الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن تعلق على محتوى أيٍّ منها، وتخصّص وقتا من يومها لسماع نشرات الأخبار، وتبكي كثيرا جراء ذلك. وحين تضيق ذرعا بكميّة السواد والقتل والدمار التي تغطي الشاشات، تنتقل إلى مشاهدة فيديوهات أشهر الطّباخين، تطلع على وصفات الأطعمة، تدوّن المقادير بحرصٍ كبير، رغم أنها لا تجرّب في مطبخها أي وصفة جديدة.
شكت السيدة المتعبة ذاتها حالها أمام جمع من الصديقات قائلة: لستُ في أحسن حالاتي، مرهقة إلى حد بعيد، ومزاجي متكدّر على الدوام، أعاني من فرط التفكير بشكل مزعج، لا سيما قبل الخلود إلى النوم. لا أحد يدرك حجم عذابي، وأنا أكابد الأرق الذي يحيل وقت نومي إلى جحيم. صرتُ أمقت الليل، وأكن عداء شديدا لسريري ووسائدي التي لا تجلب لي سوى تعب البال. إنه وضعٌ مدمّر للأعصاب. أشعر أنه سوف يقودني إلى الجنون. ما أن أضع رأسي على الوسادة، لا أستطيع التوقّف عن التفكير، ولو للحظة. أفكر في كل شيء، أستعيد كل ما مر من تفاصيل يومي، أدقّق فيها، أخضعها لتحليل عبثي، أفكار متلاحقة متناقضة تجعلني في حالة تأهّب مضنية، فيغدو النوم العميق حلما بعيد المنال. أجمعت الصديقات أنهن يعانين من الأمر نفسه، وأكّدن لها أن الحالة عامة لا تخصّها وحدها.
لم يكن جواب الصديقات من باب المواساة والتضامن، إذ لم يجانبهن الصواب تماما، فالحالة شائعة جدا لدى مختلف الأعمار. و بحسب علم النفس، لا يعدّ التفكير المفرط قبيل الخلود إلى النوم مرضا نفسيا، رغم آثاره على النفس والجسد، بل هو عادة أو سلوك نفسي شائع، يعاني منه ملايين البشر في زمننا الحاضر، بسبب عوامل عدّة، أهمها التطوّرات التكنولوجية الاتصالاتية الهائلة التي غيرت وجه العالم إلى الأبد، وحشت الرؤوس بكمّ من المعلومات غير الضرورية، الفائضة عن الحاجة. وفي أحيان كثيرة، تكون أكثر من طاقة أدمغتنا على الاستيعاب. حين يأتي وقت النوم، تغزو رأس الواحد منا سلسلة من الأفكار غير المترابطة في مزيج عجيب متناقض، يستهلك طاقته الجسدية، ويأتي على جملته العصبية أحيانا، تسيطر عليه فكرة واحدة محدّدة لا تخلو من إزعاج، ترهقه كليا، وتستجلب معها مشاعر سلبية، من حزن وغضب، ما يؤثّر على جودة الحياة من حيث الأرق وصعوبة النوم وانخفاض المناعة، كما يؤدّي على المدى البعيد إلى اضطرابات نفسية عديدة، مثل الوسواس القهري والاكتئاب والتوتر الدائم. ويجمع مختصون أن من الصعب التخلص من عادة أو سلوك التفكير المفرط بسبب نمط الحياة المعقد الذي نعيشه، وافتقارنا إلى القدرة على الاسترخاء وعلى التحكّم بطريقة تفكيرنا، غير أنهم لا يعتبرون ذلك مستحيلا بالمطلق، إذا ما توفرت الإرادة والرغبة الحقيقية في الخلاص، ويقترحون وسائل عملية من شأنها التخفيف من حدّة هذا السلوك، مثل تمارين التنفس العميق، الابتعاد عن مؤثّرات مواقع التواصل، وممارسة رياضة المشي، منح أنفسنا فرصة التأمل والصمت، وتجنب الصخب والضجيج، وغيرها من وسائل الراحة التي يمكن اللجوء إليها. والأهم من ذلك كله أن ننجح في الوصول إلى مرحلة إدراك أن الألم كله يكمُن في فرط التفكير، فلنتوقّف عن ذلك رأفة بأنفسنا.