فخّ "كريستال"
وضعت نفسي في موقفٍ حرجٍ أمام بنات العائلة، حين اعترفتُ لهن بأنني مثلهن من متابعي المسلسل المعرّب عن التركية "كريستال"، وتعرّضت عن استحقاق لسخريتهن اللاذعة، وتذكيرهن اللئيم بتنظيراتي السابقة عن ضرورة الانتقاء وعدم إضاعة الوقت على التوافه من مسلسلاتٍ استهلاكيةٍ تجارية فارغة المضمون والمعنى. وفي معرض تبريري غير الموفّق، وقد عجزت عن إقناعهن بوجهة نظري، قلت لهن: "أصلا كل الأردن بتحضره". وأنه ما زال يحتل المرتبة الأولى على منصّة شاهد منذ بدايه عرضه. وتفلسفتُ أكثر حين أخبرتهن إن دماغ الكاتب بحاجة إلى فسحة من الراحة والاسترخاء والترفيه، بعيدا عن المواضيع الجادّة التي يُغرق فيها نفسه من أدب وفلسفة وفكر وسياسة وتاريخ وميثولوجيا وأديان.
لم يقنعهن ما سقته من تبريراتٍ، وواصلن تندّرهن القاسي، كلما ضمّتنا جلسة نتداول فيها آخر مستجدات الحرب بين عليا وفيْ، المرأتين الجميلتين المتنافستين بضراوة على قلب الدكتور جواد، معشوق الصبايا على امتداد الوطن العربي، وهن يحكن المؤامرات وينصُبن الشباك للفوز به، وقد بلغ الصراع أشدّه ولم يحسم بعد، رغم وصولنا إلى الحلقة 70، وأمامنا 20 حلقة أخرى كي نطمح إلى أن جواد سوف يعود إلى حبّه الكبير (فيْ)، وأن كيد عليا سيرتدّ إلى نحرها، فأغلبية الجمهور منحاز إلى قصة الحب الجميلة بين بنت الناطور، البريئة الطيبة الفقيرة مصمّمة الأزياء الطامحة إلى النجاح والشهرة وطبيب التجميل الثري جواد، غير أن عليا، الثرية والمشهورة، ولكن المتعجرفة والمغرورة والأنانية، تعمل بكل جهدها للتفريق بين العاشقيْن اللذيْن أحبهما الجمهور معا، رغم الفوارق الطبقية، إذ غالبا ما يروقُ للمتابعين، ذوي النزعة الرومانسية، مثل هذه الخلطة الكلاسيكية المتوفرة في قصص الأطفال المضلّل بهم، مثل ساندريلا والأميرة النائمة التي تنتهي دائما بانتصار الحب، وتذليله كل العوائق، حيث يعيش الحبيبان في النهاية "بتبات ونبات، ويخلّفون الأولاد والبنات، ويمضون ما بقي من حياتهم بحب وسعادة وهناءة بال، فيما يندحر الأشرار أعداء الحب خائبين، وقد فشلت مساعيهم الدنيئة، فيشمت الجمهور بهم، ويفرح بقوة الحب، ويحقق المنتج الأرباح الطائلة، ويحقّق الممثلون الشهرة والثروة، وتتسابق شركات الإنتاج على استثمار نجاحهم في أعمال جديدة طويلة ممطوطة، تستقطب مزيدا من المشاهدين المتعبين من إيقاع حياتهم الرتيب المتكرّر، الخالي من الدهشة والإثارة والتجديد، فيلوذون بمثل هذه الأعمال المخدرة لعقولهم ولمشاعرهم، ويجدون فيها، ولو برهة من يومهم، تعويضا وهروبا مشروعا من قسوة الحياة ومرارتها.
ومع التسليم بتفاهة النصّ وسطحيته وضعف الحوار، وعدم منطقية الأحداث التي لا تحتمل أكثر من خمس حلقات على أبعد تقدير، كان لا بد من الاعتراف بأن مسلسل "كريستال" تمكّن من جذب ملايين المشاهدين بسبب بذخ الإنتاج الذي وفّر جماليات الصورة من مشاهد طبيعية بديعة، وأحدث الموضات من أزياء نسائية فاخرة وملابس رجالية أنيقة، لم تخل من مجوهرات وساعات باهظة الثمن، وسيارات فارهة وقصور منيفة وحدائق غنّاء ومطاعم راقية، وغيرها من مظاهر الترف والحياة المرفّهة التي يتوق إليها المشاهد.
ومن باب إحقاق الحقّ، لا بد من الإشادة بأداء الممثلين، مثل باميلا الكيك التي أبدعت وتفوّقت على نفسها في تأدية دور عليا قاسية القلب، وكذلك ستيفاني عطا الله التي أقنعت المًشاهد بشخصية فيْ المتقلبة، ومحمود نصر، وهو الممثل المتمكّن من أدواته الذي لم يعتمد على وسامته فحسب، بل قدّم الدور باقتدار وبراعة. أما مفاجأة العمل الحقيقية فهي الممثل السوري المبدع، خالد شباط، الذي قدّم دورا مركّبا بالغ التعقيد لشابٍّ يعاني من إعاقة، إضافة إلى إتقانه للهجة اللبنانية، فأجاد وأبدع وتجلى، ما لفت الأنظار إليه بقوة ممثلا كبيرا يستحقّ الالتفات.
في المحصلة، مهما قلنا عن ثغرات المسلسل، وهي أكثر من أن تحصى، قال الجمهور كلمته، ووضع العمل في الصدارة. ولكل من وقع في فخّ "كريستال" أقول: تمتّع، يا صديقي، بالمشاهدة، ولا تلقِ بالا لسخرية الآخرين، فالناس أذواقٌ ولكل امرئ ما تذوّق!