فؤاد الساعة والأجل الثاني

18 فبراير 2021

(Getty)

+ الخط -

المصريون ظرفاء. ومنهم صديقي المصري حنفي الذي قال إنّ أشقَّ اللحظات في يومه وليله هي لحظة انبعاثه من النوم، اللحظة التي يوقظه إسرافيل الساعة السابعة صباحا، فيقول حنفي: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا. .. وهذا يعني أنه يبغض المومياوات، ويكره فنَّ التحنيط. وتحنيط الأحياء أشدُّ من تحنيط الأموات.

سألته عن صوت مؤذن الساعة، فقال: هو جرس. فتحسّرتُ. وكان مؤذن الساعة ديكاً في أيامنا القديمة، قبل أن يجمع العلماء في علبة الهاتف الجوّال كل العلم وكل الجهل، المؤذّن في أفلام الكرتون ديك صغير أو عصفور. قلت مقترحاً: اجعل مؤذّن الساعة ديكا أو دجاجة، فهو أندى من صوت المعادن الصمّاء، فصمت، لأنه يريد أن ينام. قلت له: اجعل صوت مؤذّن الساعة صوت حشرةٍ لطيفة، صوت صرصور، حفيف أوراق، صوت عندليب، صوت سقوط المطر على الأرض، لعله يكون لك أنهد وأنفر. وأخشى أن يكون خوفه من منبّه الساعة عضّة كلبٍ مسعور، فالمعضوض يخاف صوت الماء، هو يُذعر من صوت نبض الساعة، ويلثِّمها ويكممها. قال إن زميلته الألمانية في المصنع حسناء، لم ير مثلها في الحُسن حتى على الشاشة المصرية، ولا أحد يحفل بها؟

سألت: ما علاقة الجمال بالساعة، يا شافعي؟ قال مصوّبا اسمه ومذهبه: حنفي يا عمِّنا. وقال إنه سيزعل مني، لأني أجهل الأنساب والقرابات بين المعاني والأفكار، المرأة ساعة يا عمّنا. .. كنا نقيس أوقاتنا بالقمر، والمرأة قمر، ألم تسمع المطربة تبشّر أمها بأن القمر نزل على الأرض: "يا امه القمر ع الباب"، وما قال الشعراء في شبه المرأة بالقمر يُجمع في دواوين.

قال إنه يريد أن ينام ولا يريد أن يستيقظ، النهار يخسف القمر. سينام حزيناً، لأن زميلته جميلة، ولا أحد يحفل بجمالها، وأنه لا يشبع نوماً. الحياة في أوربا عمل ونوم، بينها ساعتان لقضاء الحاجات، وساعتان للتواصل الاجتماعي، ولم يبق سوى فكّة الوقت لتصويب أعطال البيت والجسد.

سألني عن الربا، فقلت هو ربح من غير جهد، فقال لي: الأصل في الربا ليس الربح المادي، بل هو ربح الوقت، فالمرابي يسرق عمراً لا مالاً، وكنت ما أزال أفكّر في المرأة الساعة. وتذكّرت الساعة الرملية، فهي على شكل امرأة لها خصر أهيف. قال الشعراء العرب أشعاراً كثيرة تمدح البطن الأهيف والقدِّ الأميد، ثم إن حنبلي وهو في الفراش قال: الأهرام ساعة أيضاً، ففكّرت، وتعجبت كيف يكون القبر ساعة، فقال: هو ساعةٌ حجريةٌ معطّلة، والفرعون طاغية عطّل ساعة شعبه، التحنيط معاندة للموت.

وذكّرني تسريبٌ للسيسي، قال فيه: الانقلاب عودة إلى الوراء أربعين سنة، وقال: ألا ترى الشعب المصري وهو يستغيث مثل الأطفال بالأب القائد، لا يصير الملك طاغية إلا إذا جعل شعبه أطفالاً، والأطفال هم أقلُّ الناس شعوراً بالوقت والزمن. .. وكرّر قائلاً: الهرم هو أكبر ضريح في العالم، الهرم ساعة لا تدور. كنت ما أزال أفكر في لغز الهرم والساعة، قلت له: النؤوم صفة كريهة للرجال عند العرب، لكنها مستحبّة للجميلات. وقد تغزّل الشعراء العرب بنؤوم الضحى ومكسالُ الضحى، فقال إنه لن يذهب إلى العمل، حتى لا يرى الحسناوات يعملن في تلك الأعمال الشاقّة.

وجدت أنَّ النوم انتحار حلال، فالنوم موتٌ أصغر. الفرق بين الموت والوفاة أنَّ الموت يقع مرة واحدة بينما الوفاة تقع كل ليلة، الموت للروح والوفاة للنفس. قال: ألا ترى كيف رسم الأوائل عقرب الساعة على شكل إبرة العقرب، بل منه اشتقوا اسمها، من الحشرة السامة؟

قلت: ألا ترى أنَّ الأوائل جعلوا صوت منبّه الساعة صوت ديك، هل رأيت كيف تقتل الديكة والدجاج العقارب، إنها ما إن تجد عقرباً غازيا عاديا، حتى تثب عليه، فتقص ذنبه. هيا انهض وانشط والعب على أعصابي، قال: لست في سربي.

لقد نكبنا بهزيمةٍ لم تحصل من قبل، الهزيمة نوم بالكوابيس، وقد وجدنا المنفى نعمةً وهو عقوبة، وذبح للوقت من الوريد إلى الوريد.

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر