غسّان الجباعي .. "قهوة الجنرال"
كاد أهل الدرس الأدبي، في السرد خصوصا، يروْن في الذي سمّي طويلا "أدب السجون" جنسا إبداعيا بذاته. ولو فعلوا هذا، أو مالوا إلى هذا "التجنيس" (غير المقنع تماما)، لبان بعض التزيّد في أمرِهم هذا، غير أن في الوسع أن يلحظ قارئ الدراسات الموفّقة التي انشغلت جيدا بالنصوص العربية الوفيرة من هذا الأدب (رواياتٍ وقصصا قصيرة ومسرحيات) أنها وقعت، إلى حدّ كبير، على ما يمكن حسبانها خصائص تُمايز هذه السرود عن غيرها من أدب، من قبيل المزاج الكابوسيّ فيها، واتّساع مساحات المونولوغات، والتعبير، غالبا، عن اختلال العلاقة بأي آخَر، ومركزية سطوة السلطة وتجبّرها، والاعتناء بالنفساني والجوّاني، وغير ذلك مما أهل مكّة أدرى بشعابها فيه. والمناسبة هنا للإتيان على هذا القول، صحّ بعضُه أو كلّه، أو لم يصحّ منه شيء، التقاط نصٍّ روائي، قليل الصفحات، شديد الكثافة، شفيف، من أدب السجون السوري، وهو أدبٌ من "مُنجزات" سلطة القهر والقتل الحاكمة في سورية منذ عقود أنها جعلته غزير الأعمال. والنصّ هو "قهوة الجنرال" (دار نون، رأس الخيمة، بالتعاون مع رابطة الكتّاب السوريين، والمتوسّط لتنمية القراءة والتبادل الثقافي، 2014)، لكاتبه الراحل، أخيرا، غسّان الجباعي، المعتقل السياسي تسع سنوات في سجون حافظ الأسد، والذي عُرف مخرجا وكاتب مسرح ودراما.
يقول بطل الرواية، في واحدةٍ من مقاطع سرده المتتالي، لامرأةٍ تُنصت إليه إنهم، يوما، في المعتقل، وضعوا مكبّرات صوت، وبثّوا لقاءً مع حافظ الأسد، أجرته صحافية أميركية، وأُجْبر الحرّاس المساجين على سماعه. سألت المذيعة الأسد عن المعتقلين السياسيين في سورية، فأجاب: "لا علم لي بوجود سجناء لدينا. هذا جزءٌ من الحملة الإمبريالية الصهيونية المعادية لسورية". يقول السارد الراوي: "كان عددنا أكثر من 10 آلاف معتقل في تدمر فقط. وكنّا نصغي بعيونٍ مفتوحة. وكان الحرّاس أيضا يصغون معنا، وكدنا نصدّق بأننا غير موجودين بالفعل". .. هنا مربط الرواية كلها، في وجهة نظرٍ ما، أن غسّان الجباعي إنما أراد أن يُقاوم فعل المحو الذي ترتكبه السلطة ضد كل صاحب رأيٍ مختطَفٍ في سجونها، غير موجودٍ بالنسبة لها، لا حيّز له. وتبلغ السوريالية منزلةً عاليةً هنا، في إشهار السجين السابق (خرج بساقٍ واحدة) إنه، وزملاءه في المعتقل، كادوا يصدّقون إنهم غير موجودين. ولكن واحدةً من وظائف الأدب حماية الذات وفردانيّتها من التغييب والتذويب، وأظنّها من أرفع مهمّات "أدب السجون" أن يحمي آلام روح السجين وبدنِه من الإلغاء الذي تفعله السلطة المستبدّة القاهرة، وذلك عندما لا يدوّن عنها، ولا يوثّقها بلغة المؤرّخ، وإنما يشخّصها بلغة الحكي الآتي من جوف الروح وتضاريسِها المنهكَة، المدمّاة بفعل أهوال الذلّ التي تنتهك آدميّة السجين وإنسانيّته.
يفعل غسّان الجباعي هذا كله في "قهوة الجنرال"، روايته التي تفتتِح صفحاتِها بتصويرٍ مشهديٍّ لفضاءٍ مفتوحٍ قدّام البحر، غير "أنهم نصبوا شباكا من القضبان الحديدية العملاقة، لتعزل اليابسة عن البحر، أو البحر عن اليابسة". وكأن هذه العتبة الأولى في مدارج العبور إلى ما كابدَه سجينٌ سياسيٌّ، طلبوا منه، قبل سنوات، القدوم إلى "فنجان قهوة" في فرع أمني (في سورية)، ثم مضى زمنٌ تتابعت فيه نوبات التعذيب والفتك بإنسانية هذا السجين الذي يحكي ويحكي، لامرأةٍ صادفها هنا، عند البحر، ستحكي هي الأخرى، لتتقاطع محكياتُهما وتلتقيان في بؤرة الرغبة بأن تجهر الذات بما فيها، وتنفض عن نفسِها ندوبها، ليكون في هذا، وغيره، شيءٌ من مواجهة الطغيان. لا يخفى على القارئ أن المرأة عاهرة، وقد قالت إن الرجال أصبحوا "مجرّد ظلالٍ وخيالاتٍ مائلةٍ خلف ستائر نافذتي المغلقة"، وباحت بكثيرٍ عن زوجها المثقف المعارض الذي تركها، وعن الخوف الذي صار يحتلّ كيانها.
أتقن الراحل غسّان الجباعي، في عمله المقطّر والممتلئ في آن، اللعب على تناوب الأزمنة، على تداخل الراهن بالمتذكَّر، بالمُشتهى والمتخيّل أحيانا. وأتقن نوعا من تقاطع المنزع المسرحيّ فيه مع صفة النصّ الذي يصنُعه روايةً. وكانت، للحقّ، روايةً كاشفةً، يوحي اسمُها بما ستقصّ عنه وتحكي فيه، "مقهى الجنرال"، فأخذت مطرحا طيّبا في أدب السجون .. العربي.