غزّة ووجوه العجز
بعد نحو 45 يوماً على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، تكرّست حقيقة واحدة على الصعيدين العربي والإسلامي، وهي حالة العجز المطلق عن القيام بالحد الأدنى من الإسناد لمئات الآلاف العالقين في غزّة بين نيران القصف الهمجي وفقدان معظم مقوّمات الحياة من ماء وغذاء، والتسليم بـ"القدر" الأميركي والإسرائيلي. العجز كنّا ندركه ضمناً، لكنه بات ماثلاً أمامنا بكل تفاصيله.
لم يطلب أحدٌ من القمّة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض الأسبوع الماضي أن تعلن الحرب على إسرائيل، ولا حتى أن تعلن استخدام سلاح النفط للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل لوقف المجازر المرتَكبة يومياً، بل الالتزام بما أعلنت عنه في مخرجات اجتماعها فحسب، وهو "كسر الحصار على غزّة".
لم تكن الصيغة في البيان في سياق تمنّيات أو دعوات، بل جاءت تحت بند "قرارات"، غير أنها قراراتٌ غير قابلة للتنفيذ. تخيّل بعضُهم لوهلة أن القمّة رفعت سقف التحدّي، وأن شاحنات المساعدات المكدسة في العريش المصرية ستجد طريقها إلى معبر رفح أخيراً، من دون الحصول على موافقة إسرائيلية. وهي موافقةُ بالأساس غير مطلوبة، ما دام المعبر مصرياً فلسطينياً حصراً، ولا علاقة لإسرائيل بإدارته. غير أن هذا لم يحدُث، وإسرائيل نجحت في فرض أمر واقع أن لا شيء يمر عبر المعبر من دون موافقتها، وهو ما يبدو أن القاهرة رضخت له. إذا كانت مصر فعلياً ملتزمة، أو مقتنعة بقرار القمّة العربية الإسلامية، كان من المفترض أن تبدأ على الأقل التنسيق مع المنظمّات الدولية، وحتى مع إسرائيل بشكل من الأشكال، لبدء إدخال بعض المساعدات، ولتكن محصورة بأنواع معيّنة من المواد الغذائية والطبية بالحد الأدنى، غير أن هذا لم يحصَل. وإذا كان هذا صعباً بالنسبة إلى القاهرة، فإن من المستحيل أن تحرّك الشاحنات إلى معبر رفح من دون تنسيقٍ كامل، رغم أنها قادرة على ذلك، ولن تكون إسرائيل قادرةً على منعها، فالخيار بالنسبة إلى دولة الاحتلال في هذه الحالة منع الدخول بالقوة، والمخاطرة بدخول مواجهةٍ مع مصر، وهو أمر لا أحد يريده، خصوصاً الداعمين لإسرائيل. ولكن لا داعي لمثل هذه المخاطرة ما دام هناك اطمئنان بأن القاهرة لن تُقدم على خطوةٍ كهذه، وهي التي لم تقطع العلاقات مع إسرائيل أو تطرد سفيرها على الأقل، رغم فداحة الارتكابات في قطاع غزّة.
إضافة إلى هذا العجز السياسي العربي والإسلامي، تكشّف عجز عسكري، أو تردّد، من الجهات التي تطلق على نفسها اسم "محور الممانعة"، وهو المحور الذي يقوم بالأساس على معاداة إسرائيل والتهديد ليلاً نهاراً بإزالتها من الوجود في "سبع دقائق". فمع انطلاق العدوان على قطاع غزّة، كانت توقعات كثيرين أن حرباً كبيرة على مشارف الاندلاع في المنطقة، وأن "محور الممانعة" أو "المقاومة" لن يترُك دولة الاحتلال تستفرد بحركة حماس على هذا النحو، إلا أن ما حدَث هو العكس، فرغم دخول حزب الله اللبناني نسبياً في المعركة، عبر المناوشات اليومية التي يمكن القول إنها منضبطة من الطرفين، إلا أن هذا لم يكن المأمول من الحزب بالنسبة إلى "حماس"، والتي كان قادتها العسكريون يعوّلون على "وحدة الساحات" لتحويل هذه المعركة إلى معركةٍ وجودية، سواء بالنسبة لإسرائيل أو "محور المقاومة". ولكن حسابات "حماس" اتّضح أنها مختلفة عن حسابات باقي المحور، وفي مقدمته إيران، والتي طلب مرشد جمهوريتها، علي خامنئي، من قادة "حماس" التوقف عن دعوة باقي أطراف المحور للدخول في المعركة. المدافعون عن انكفاء "المحور" من الدخول في الحرب يربطونه بالتحشيد الغربي والأميركي في المنطقة، والاصطفاف خلف إسرائيل، غير أنهم يتجاهلون أن هذا التحشيد سيكون في أي معركةٍ تكون إسرائيل طرفاً فيها. وبالتالي، ووفق هذه الاعتبارات، لا مجال لحربٍ ضد إسرائيل في المطلق، ما يعني أن لا حاجة بعد اليوم لوجود مثل هذا المحور، إلا لممارسة سطوته داخلياً، وعلى الدول غير المهمة غربياً وأميركياً.
هو عجزٌ بوجوه متعدّدة سيبقى وصمة عربية وإسلامية خلال الحرب وبعدها، وإذا كانت غزّة اليوم هي الضحية، فإن الدور سيأتي على آخرين تباعاً، ولن يتبدّل العجز.