حديث النصر والهزيمة

15 نوفمبر 2024
+ الخط -

منذ الأشهر الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، والذي امتدّ إلى لبنان، لا يكلّ "الناشطون الاجتماعيون" (نسبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي) من الحديث عن إرهاصات النصر أو ملامح الهزيمة من مواجهة آلة القتل الإسرائيلية. يتحوّل هذا الحديث مباشرةً إلى تلاسن وتخوين بين المؤمنين بالنظرية الأولى والمقتنعين بالثانية، من دون أن يؤدي هذا السجال إلى أي تغيير في واقع الإبادة التي يتعرّض لها على الأرض الفلسطينيون واللبنانيون.

لم يتوقّف هذا السجال عند حد الاختلاف على معاني الهزيمة والانتصار، بل انتقل إلى التخوين والتقليل من "وطنيّة" هذا الطرف أو ذاك. ولنتذكّر أن هذا التخوين طاول، ولا يزال يطاول، الفلسطينيين الهاربين من المجازر الإسرائيلية. فحتى الأمس القريب يلوم بعض "الخبراء الاستراتيجيين" الغزّيين الذين غادروا القطاع إلى مناطق أكثر أمناً خوفاً على حياتهم وحياة أحبائهم. لائمة تستند إلى مقولة "التشبث بالأرض والقضية"، وهي تحمل الكثير من الشعبوية لمن يجلس بعيداً يراقب عبر شاشات التلفزة، كأنه يشاهد مباراة كرة قدم، فلا هو يقع في دائرة الاستهداف الناري، ولا يتعرّض لحرب تجويع ويبحث عن قوته بين أنقاض المنازل وما تبقى من طعام فيها. فمن السهل جداً التنظير في الصمود والتصدّي لمن لم يذق سابقاً أهوال الحروب ولم يعش تداعياتها، ولمن لا يفقد كل يوم عزيزاً أو قريباً أو أملاكاً.

من المؤكّد أنه لا بأس بالتفاؤل ومحاولة رفع الروح المعنوية لكثير من المواطنين، سواء كانوا من الفلسطينيين أو اللبنانيين أو غيرهم من العرب، لكن من دون الشك والتخوين أو التهليل "لإنجازات" أو "معجزات" لا يراها سوى أولئك المؤمنين بها أو المستفيدين منها. فالمعركة طويلة، وما نخوضه اليوم  جولة، قد تكون قاسية، لكنها ليست نهاية الحرب، لذا فالإقرار بأن الوضع صعب وليس في صالحنا، على الأقل على المدى القصير، ليس نهاية العالم ولا يعني اندثار القضية والاستسلام للعدو.

على المقلب الآخر، هناك مشهد مختلف، هناك فعلاً من يستعجل إعلان الهزيمة أمام إسرائيل، مستنداً إلى القدرة التدميرية الإجرامية التي تستخدمها قوات الاحتلال في قطاع غزّة أو جنوب لبنان وضاحيته الجنوبية وبقاعه. مشاعر كثير من هؤلاء قد تكون نابعة من الرغبة في الحفاظ على ما تبقى من بشر وحجر، لكن كثيرين آخرين ينطلقون من تصفية حسابات مع حركة حماس في غزّة أو حزب الله في لبنان، وهم لا يخفون في أحيان كثيرة رغبتهم في رؤية نهايتهما. وأيضاً لا يتوانون عن التقليل من فعل المقاومة وقدرته على الحد الأدنى من إيلام العدو، مستندين ربما إلى سقف التوقّعات الذي كان مرتفعاً قبل الحرب من قدرة المقاومة على مواجهة إسرائيل. فما كانت تعلن عنه فصائل المقاومة في لبنان أو غزة من قدرات قتالية، كان يقلق إلى حد كبير خصوم الداخل، والذين يمكن القول إن كثيراً منهم يشمت بقلة فاعلية هذه القدرات.

معظم هؤلاء لا يفكرون بسيناريو اليوم التالي، وأي مستقبل ينتظر المنطقة في حال حققت إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، أهداف حربي غزة ولبنان، وتأثيراته على مسارات العلاقات البينية العربية التي ستكون ماضية إلى مزيد من التفكك، مع ما يمكن أن يحمله ذلك من صراعات إقليمية وحروب أهلية.

سجال النصر والهزيمة، ومن كان على حقّ ومن كان على خطأ، مستبَقٌ كثيراً لأوانه في ظل الإبادة الجماعية الإسرائيلية، والتي لا تقف عند حدود قطاع غزّة ولبنان. فحالياً كلنا نعيش ويلات القتل والتدمير التي يجب التركيز على وضع حدٍّ لها، ومن بعدها لتكن تأويلات من وكيف انتصر ومن وكيف هزم.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".