"عينا مُنى"
لم يكن كثرٌ قد سمعوا بأعمال الأستاذ الجامعي والكاتب المتخصّص في تاريخ الفن، الفرنسي توماس شليسّير، قبل أن يقرّر كتابة عمله الروائي الأول، "عينا منى" (496 صفحة، دار ألبان ميشيل 2024)، الذي تحوّل إلى حدثٍ أدبيٍّ عالميٍّ بعد شراء حقوق ترجمته إلى أكثر من 25 لغة، من بينها الإنكليزية والألمانية واليابانية والتركية، وذلك قبل أن يصدُر حتى في صيغته الفرنسية الأصلية. فما الذي يحكي عنه الكتاب لكي يستثير كل هذا الاهتمام، فيُقال إنه المرادف الفنّي لكتاب "عالم صوفي" الشهير (للنرويجي جوستاين غاردر) الذي وضع علم الفلسفة مبسّطاً بين يدي صغيرة أخرى تدعى صوفي.
"كلُّ شيءٍ بات معتما"، هكذا تبدأ الرواية، بهذه الجملة المشؤومة تتلفّظ بها الصغيرة منى، ابنة العشر سنوات، التي فقدت بصرها فجأة ومن دون سابق إنذار. العتمة غشت عينيْها وقتاً قصيراً في البداية، إذ إنها ستستعيد بصرها بعد مضي ما يقرب الساعة. لكن، وككل الأهل، سيهلع والداها، وستدخُل العائلة نفقاً طويلاً من الفحوص والاختبارات والتحاليل الطبية التي للأسف، لا تبشّر بخير إذ يُعلمهم الطبيب أنه وفريقه سيقومان بكل ما يلزم، وسيفعلان المستحيل ليؤخّرا وقوع المصيبة. ومعناه أن العمى بات شبه محتوم، وأن على الوالدين اعتماد طبيبٍ نفسيٍّ على وجه السرعة يساعد الطفلة على اجتياز هذه المحنة الصعبة. وبما أن الأب والأم يعملان، يقترح الجدّ هنري اصطحاب منى إلى مواعيدها الأسبوعية، كل يوم أربعاء.
بيد أن فكرةً مخالفةً سوف تخطر لهنري الشغوف بالفن: "إذا أصبحت منى عمياء إلى الأبد، لسوء حظّها، فلا بد أن يكون لديها على الأقل في عمق دماغها مخزونٌ يمدّها بروْعة بصرية". هكذا يقترح عليها أن يأخذها في موعد الطبيب، وسرّاً عن الأهل، إلى أحد المتاحف الكبيرة في باريس، ليستكشفا عملاً فنياً واحداً في كل مرة، من خلال مراقبته بصمت في البداية، ثم من خلال مناقشة انطباعاتها عنه مع جدّها الذي سيخبرها بدوره بكل ما يعرفه وجمعه خلال سنوات عن كل لوحة أو منحوتة، فيُطلعها عما كانت نيات الفنان حين أنجز عمله الفني، في أية ظروف، وكل ما رافق قصة اللوحة.
وبهذا، تتخذ الرواية شكلها وأسلوبها فتنقسم فصولُها إلى 52 فصلا، هي عدد الأسابيع أو الزيارات التي سيقوم بها الجد وحفيدته إلى ثلاثة من أهم المتاحف الباريسية، اللوفر الشهير، أورساي، ومركز بوبور. وهكذا، في كل زيارة، سوف نتعرّف إلى عملٍ من أعمال كبار الفنانين المعروفين من أمثال دافنشي، غويا، مانيه، مونيه، تيرنر، فان غوغ، كليمت، سيزان، إلخ، وأيضا إلى لوحات أخرى أصحابها أقلّ شهرة من دون أن يكونوا أقلّ أهمية. واللافت أن الكتاب لن يترك قارئه ضائعا في غياب اللوحات، أو محتاجاً للبحث عنها لكي يتابع الشروحات والانطباعات، إذ عمدت الدار إلى استنساخ الأعمال داخل الرواية على شكل دليلٍ من الصور المرقّمة يتكشف على شاكلة ملصق مطوي صغير.
عمل الكاتب عشر سنوات كاملة على كتابة هذه الرواية، واختار أن تكون البطلة طفلة مضيئة عاطفية وحساسة، متعلّقة جدّا بجدّها (الرواية مُهداة إلى "جميع الأجداد في العالم")، وأشبه بصفحة بيضاء أو بإسفنجة ذات قدرةٍ هائلة على امتصاص ما يُلقى إليها من معارف ومعلومات. وقد أصرّ المؤلف أيضا على أن تُنشر "عينا منى" بلغة برايل المخصّصة لفاقدي البصر بأحرفٍ كبيرة لأن الكلمات، في رأيه، "تملك القدرة على جعل الأعمال الفنية تُرى".
متى تتم ترجمة هذا الكتاب إلى العربية؟ مجرّد سؤال.