عيد الأم التي لا تعرف الحفلات الرئاسية
في مقابل كل امرأة جرى اختيارها بعناية لحضور الاحتفال الرئاسي الساخر في مصر بعيد الأم، هناك ألف أم على الأقل بين سجينة، أو تنتظر ابنًا معتقلًا، أو مختفيًا قسريًا، أو زوجًا مسجونًا، أو غائبًا في المنافي.
هؤلاء النسوة الجليلات لا يذكرهن أحد في صخب الاحتفالات وبهرجة الفكاهة السلطوية في عيد الأم، والذي يتحوّل إلى مناسبة ذكورية تخصّ شخصًا واحدًا يستعرض فيها خصاله المدعّاة وإنسانيته الاصطناعية، الشخص الذي لا يحترم من النساء إلا اللاتي كنّ وقودًا لمحرقة إنسانية واجتماعية لم تنطفئ.
هؤلاء النسوة الغائبات المغيبات عند الاحتفال والتقدير، تحدّث عنهن شيخ الأزهر الإمام الأكبر، أحمد الطيب، قبل ثلاث سنوات في حضرة الذين ظلموهن وأشبعوهن ألمًا وتعذيبًا حين قال "اتّقوا الله في النساء".
كانت تلك هي الخطبة الأقوى والأروع لشيخ الأزهر، وهو يتحدّث عن سقوط الدول والمجتمعات التي تفترس حقوق الإنسان، وتنتهك حرمات ثلاث: حرمة الدم، وحرمة الملكية الفردية الخاصة، وحرمة الأسرة والعرض والشرف. وضع شيخ الأزهر يده على أصل الداء في مصر، وهو يستذكر رسول الإنسانية مشيرًا إلى "طائفة من شرّار أمته استباحت الدماء والأعراض والأموال".
كان ذلك قبل ثلاث سنوات، أما في الحفلة الأخيرة قبل يومين فقط غاب الإمام الأكبر، ليظهر بدلًا عنه من يمارس مهامّ شيخ الأزهر في الفتوى والتشريع، فيحلّل ويحرّم ما يشاء، ويضرب عرض الحائط برأي المؤسسة الدينية الأكبر في التشريعات الخاصة بالطلاق، ثم يستعرض بضاعته من الحنان والرحمة، وسط صيحات وتصفيقات "نساء 30 يونيو" اللاتي وقع عليهن الاختيار لحضور الحفل الذي تحوّل من مناسبة لعيد الأم إلى أداة سياسية لإسباغ جدارة إنسانية ووطنية على انتزاع السلطة بالدم والبارود.
هناك خارج قاعة الحفل تجلس الأمهات الحقيقيات الأجدر بالاحترام والاعتزاز، وهنّ الأحقّ بالتذكّر، ومن هؤلاء من يناضلن ببسالة وشرف في ظروف اقتصادية واجتماعية بالغة السوء من أجل لقمة العيش والحفاظ على أسر غاب عائلها في زنازين لا تعرف الرحمة، أو قتل غدرًا وغيلةً. منهن من يذرفن الدمع، صادقاً ونبيلاً من دون انكسار، على أكثر من 60 ألف إنسان في السجون، وراء كلّ منهم أم وزوجة وأخت وابنة، هؤلاء الرائعات النبيلات اللاتي تغتسل الأرض بوقع خطواتهن، ذهاباً وإياباً، من قاعات المحاكم ومراكز الاعتقال وزنازين السجن، يضربن المثل الأعلى في الجسارة والصمود والشموخ، بمواجهة ذئاب سادية، جائعة طوال الوقت للدم الحرام والمال الحرام. ومنهن من يقبعن في الزنازين سجينات رأي وموقف إنساني مدافع عن الحرية والحق، غير ساكتات على الظلم، ساعيات بكلّ الطرق لرفعه عن ضحاياه، فكان مصيرهن ظلمًا أشد وتنكيلًا أكثر قسوة.
بقاء هؤلاء داخل السجون في الوقت الذي يتحدث فيه سجانوهم عن حنانهم الموروث، يشكّل وثيقة إدانة للزمان الوغد، الذي وضعهن تحت طائلة أوغاد يمارسون كل أشكال الابتزاز والقرصنة، يبيعون لحظات مصافحة عابرة، أو نظرة من بعيد، لأسراهن في السجون البعيدة.
لهؤلاء ننحني احترامًا ونعتذر، ولأمهاتنا وأخواتنا وبناتنا في فلسطين الحبيبة التحية والتهنئة: قلوبكن هي المكان الآمن الأمين على خرائط الوطن، وأرحامكن أقوى من ترسانة الأعداء النووية.