عودة جبهة تيغراي وخيارات آبي أحمد
على نحو تدريجي، يتحرّك مسلحو جبهة تحرير تيغراي نحو مدن ومناطق استراتيجية شمال إثيوبيا، وذلك منذ حملتهم العسكرية التي بدأت بالسيطرة على ميكيلي (عاصمة الإقليم) أواخر الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وذلك في مقابل تراجع الجيش الإثيوبي إلى الوراء والانسحاب تدريجيا من الإقليم، استجابة للضغوط الدولية تجاه صون حقوق الإنسان، بعد رصد مجازر إنسانية ارتكبت بحق سكان الإقليم، فهذه التطورات العسكرية أخيرا تربك حقاً حسابات رئيس الحكومة الإثيوبية، أبي أحمد، الذي فاز حزبه في الانتخابات النيابية بحصوله على 410 مقاعد من أصل 447 مقعداً في المجلس التشريعي، غير أن رواية جبهة تحرير تيغراي مخالفة تماماً عن مزاعم الحكومة الانسحاب تحت غطاء إنساني، وتفيد بأن الوضع، بحكم قوة الرصاص، وأصبحت الجبهة الآن من موقف ضعف إلى قوة، ومن الجبال إلى ميكيلي. وتبدو الرواية هذه هي الأقرب إلى الصواب من الرواية الرسمية؛ حيث إن إعلان أبي أحمد وقف إطلاق نار من طرف واحد هو مؤشّر لهزيمةٍ عسكريةٍ مُني بها الجيش الإثيوبي، وإن عودة الجبهة إلى العاصمة الإقليمية كانت عملية عسكرية خاطفة، غيرت المشهد العسكري في الإقليم رأساً على عقب.
لا تعدّ المعركة السياسية التي خاضها أبي أحمد مع الأحزاب السياسية في المعترك الانتخابي أخيرا شيئاً بالنسبة له، مقارنة مع ما يواجهه من مشهد عسكري داخلي، تمثله جبهة تحرير تيغراي من جهة والنزاعات العسكرية بين الإثنيات الإثيوبية من جهة ثانية. هذا فضلاً عن تفاقم أزمة سد النهضة بعد بدء الملء الثاني له، وهو ما ينذر باندلاع حرب إقليمية، ما لم تنجح جهود الاتحاد الأفريقي لنزع فتيل التوتر بين الأطراف السودان ـ مصر وإثيوبيا، في مشهد مقلق حقاً يمكن أن يضع إثيوبيا في احتراب داخلي، ما لم تنجح المصالحة الداخلية بين القوميات الإثيوبية داخلياً، والمفاوضات مع ثنائي الخصم اللدود (السودان ومصر) بشأن سد النهضة.
اشتعال النزاع العسكري في إقليم التيغراي خلط حساباتٍ كثيرة بين التحالف الثلاثي في القرن الأفريقي، الصومال وإثيوبيا وإريتريا
أخطر ما يمكن أن تواجهه إثيوبيا في الوضع الراهن هو سيناريو الانزلاق إلى حرب أهلية بين القوميات، وخصوصا بين الأمهرة والتيغراي؛ حيث تسعى الأخيرة إلى استعادة مناطقها وكامل تراب الإقليم من القوات الأمهرية والجيش الإثيوبي، فإذا لم تتراجع قوات الأمهرة إلى حدودها، ولم تخل مواقعها العسكرية في هذا الإقليم، يمكن أن ينشب صراعٌ داخلي في الإقليم مجدّداً، ولن تتوقف ألسنة ناره في تخوم إقليم التيغراي، بل إن هزيمة الأمهرة ستعقبها خسائر بشرية وميدانية في عقر دارها، وهو ما يخشى المراقبون الأمنيون حدوثه في المرحلة المقبلة، فعودة تيغراي إلى الواجهة بقوة السلاح أعطت لقياداتها مكاسب سياسية وميدانية، جعلت حاكم إثيوبيا لا يجد تفسيراً مقنعاً للحالة الراهنة، وربما لم يوفق عندما برّر انسحاب الجيش من عاصمة إقليم تيغراي استجابة لمناشدات المنظمات الإنسانية، وكان من الأدق تبريره بـ"التكتيك العسكري"؛ حيث إن الوضع في الإقليم تأزم إنسانياً منذ توغل القوات الإريترية فيه، والتي ذبحت الأبرياء تحت وضح النهار وجنح الظلام، وفقاً لتقارير من منظمات إنسانية دولية ومحلية.
سيوفر فوز أبي أحمد في الانتخابات المحلية أخيرا له بعض مكاسب ميدانية، لإعادة ترتيب ملف إقليم تيغراي، وهو ملفٌّ شائكٌ فعلاً، تتشابك فيه أطراف دولية وإقليمية، نظراً إلى موقع الإقليم في الجغرافيا الإثيوبية، الملاصق للحدود السودانية والإريترية، وهو ما يسهّل تدفق عملية تمويل أي تمرّد عسكري آخر في الإقليم، حتى لو نجح الجيش الفيدرالي في ضبط إيقاع المشهد عسكرياً وسياسياً مرة أخرى، فإن مستقبل هذا الإقليم لن يهدأ ما لم تكن هناك سياسات إصلاحية وبدائل ممكنة لوأد الخلاف بين "التيغراي" وأبي أحمد، فطريق المصالحة الداخلية وإشراك قيادات الجبهة في إثيوبيا الجديدة خيار ممكن وحل وسط يمكن أن ينصف الجميع، من حزب الازدهار وجبهة تحرير تيغراي، لكن فرص السلام في المشهد الإثيوبي، المتلاطم بموجات عنف داخلية وتبعات النزاع المائي الدبلوماسي، تبدو أقل من خيار الحرب الشاملة في بلد لا يزال سكانه يدفعون أثمانا باهظة نتيجة التقلبات السياسية والأمنية الحاصلة في المنطقة.
يواحه أبي أحمد انتقادات تطلق بشأن استهداف الأبرياء في إقليم التيغراي، وكبت الحريات الإعلامية، جديدها زجّ 12 صحافياً في السجون
من السابق لأوانة أن تستجيب قيادات جبهة تيغراي إلى مفاوضات مع أبي أحمد بوساطة دولية، كونها حالياً في موقف قوة، بينما رئيس الوزراء يبدو في موقف ضعف، وتشتت سياسي وعسكري، على الرغم من تفانيه بإمكانية تجهيز مليون مجنّد لدحر هذه الجبهة، ولا تلوح في الأفق تسويات سلمية بين الجانبين، لأن قيادات "التيغراي" عرضت، في بادئ الأمر ومنذ اندلاع الحملة العسكرية على الإقليم، هدنة مع الجيش ومفاوضات مع أبي أحمد، لكنه رفض، وأمر باكتساح الإقليم وتمشيط المدن وطرد قيادات "التيغراي" من الأرض التي أنجبتهم، ما دفع قيادات الجبهة إلى اللجوء إلى الأحراج، وتدريب مجندين جدد في غضون أربعة أشهر فقط، لتتمكّن من بسط نفوذها اليوم على مدن ومعاقل استراتيجية شمال إثيوبيا، في مقابل تقهقر الجيش الإثيوبي إلى مدن أخرى، كدوران عقارب الساعة إلى الوراء ببطء. وتضع الجبهة شروطاً لوقف إطلاق نار مع الجيش الإثيوبي. وفي خضم ذلك، تواصل تحرّكها العسكري الميداني من مدينة إلى أخرى.
الواضح أن النزاع الداخلي في إثيوبيا والصراع الثلاثي الإقليمي بشأن سد النهضة كشف، في أروقة المحافل الأفريقية والعالمية، مدى ضعف الاتحاد الأفريقي في لعب دور وسيط جاد على الأقل، إن لم يكن دوره حاسماً في فرض قراراتٍ ملزمةٍ على أطراف الصراعات الأمنية والمائية في منطقة القرن الأفريقي، وأصبح دوره هامشياً. ويمكن القول إن أعضاء الاتحاد تأثروا بصراع المصالح، وهي حقيقةٌ أكدتها دعوة الحكومة الإثيوبية الاتحاد إلى "الوقف الفوري" للجنة حقوق الإنسان التي كانت تقود التحقيق في إقليم التيغراي. هذا فضلاً عن تلكؤه في التوصل إلى قراراتٍ مصيريةٍ بشأن سد النهضة أو تبني مواقف سياسية لإمساك العصا من المنتصف بين الدول الثلاث، ما يضع مستقبل الاتحاد الأفريقي على المحكّ، حيث لم يعد قادراً على لملمة جراحاته الداخلية ووضع استراتيجيات مستقبلية تمكن دوله على الأقل من إسكات البنادق التي تبدو مجرّد شعاراتٍ فارغة المضمون، ولا تطبق على أرض الواقع.
فرص السلام في المشهد الإثيوبي، المتلاطم بموجات عنف داخلية وتبعات النزاع المائي الدبلوماسي، أقل من خيار الحرب الشاملة
اللافت إقليمياً أيضاً، أن اشتعال النزاع العسكري في إقليم التيغراي خلط حساباتٍ كثيرة بين التحالف الثلاثي في القرن الأفريقي، الصومال وإثيوبيا وإريتريا؛ حيث إن التعاون الأمني والاقتصادي بين تلك الدول لم يعد مضموناً بعد تفجر هذا الصراع، فعلاقة أبي أحمد مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي اهتزّت بسبب انتقاداتٍ موجهةٍ من منظمات إنسانية عالمية لأبي أحمد، بعد إشراك قوات إريترية في الحرب في إقليم التيغراي، حيث برز الخلاف بين الرجلين في إدارة المعركة ضد الجبهة. هذا بالإضافة إلى تهم وانتقادات لاذعة، تواجهها الحكومة الصومالية بسبب مشاركة مجنّدين صوماليين في إريتريا في الحرب في إقليم التيغراي، جنباً إلى جنب مع القوات الإثيوبية والإريترية، على الرغم من نفي الحكومة الصومالية تلك الانتقادات، وتصفها بـ الشائعات المفبركة والمغرضة من المعارضة السياسية، لكن معركة أبي أحمد مع جبهة تيغراي غير المحسومة بعد لا تعطي فرصة أكبر لبقاء هذا التحالف مستقبلاً، كما أن عودة عبدالله فرماجو رئيساً للصومال لولاية ثانية باتت حلماً بعيد المنال.
في نهاية المطاف، يواجه رجل السلام الذي أطلق العنان للحريات السياسية والإعلامية في إثيوبيا بعد عقدين من التعتيم والتضيق على الحريات العامة، ونال جائزة نوبل للسلام تتويجاً لجهوده، يواجه ضغطاً عسكرياً محلياً وسياسياً ودبلوماسياً من السودان ومصر، هذا بالإضافة إلى انتقادات تطلق من هنا وهناك، بشأن استهداف الأبرياء في إقليم التيغراي، وكبت الحريات الإعلامية، جديدها زجّ 12 صحافياً في السجون في أديس أبابا، ما يمكن أن يعيد المخاوف من عودة أنظمة القمع والاستبداد إلى إثيوبيا التي لم تعرف طعم الحريات السياسية والإعلامية منذ نشأتها. وتبدو خيارات أبي أحمد للسلام مع الداخل والخارج، محدودة، وتكمن في الوفاق السياسي داخلياً، والتفاوض مع مصر والسودان، بشكلٍ يضمن للجميع حقوقهم المائية. أما خياراته في الحرب داخلياً وخارجياً فهي معدومة أيضاً، فالخاسر الأكبر سيكون الشعب الإثيوبي، إذا انفجرت حربٌ داخلية وأخرى خارجية في إثيوبيا، والمثل إن "من ركب فرسين شق دبره".