عن الوساطة التركية بين مقديشو وأديس أبابا
احتضنت أنقرة في 12 أغسطس/ آب الجاري، مفاوضاتٍ غير مباشرة بين الوفدين الإثيوبي والصومالي، بعد أن أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في جولته الإقليمية أخيراً أن مبادرة إثيوبية دفعت تركيا إلى تقديم موعد المباحثات المقرّرة في الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، أتت النتائج مخيّبة من جديد قبل جلوس أعضاء الوفدين إلى طاولة المفاوضات وجهاً لوجه، فتمسّك الصومال بموقفه عدم الانخراط في محادثات مباشرة مع الوفد الإثيوبي، ما لم تسحب إثيوبيا مذكرة التفاهم المثيرة للجدل مع صومالي لاند، بينما تمسّكت إثيوبيا ببدء النقاشات وعدم ربط المذكّرة بالمباحثات الجارية، وانتهت "عملية أنقرة" الثانية من دون نتائج لتقريب الأطراف، ودفعهم إلى التوصل إلى كبح التوترات بين الدولتين.
ثمّة مفارقات تهيمن على عملية أنقرة، فالنخب السياسية في الصومال ترفض، جملة وتفصيلاً، فكرة دخول مباحثات مع إثيوبيا في قضيةٍ تمسّ سيادة الصومال ووحدة أراضيه، فمجرّد النقاش مع إثيوبيا في ما يتعلق بالوصول إلى المياه الصومالية في البحر الأحمر عبر صومالي لاند، ينتقص من سيادة البلاد، فليس من حقّ حكومة آبي أحمد في إثيوبيا نصب فخاخ نزاع مع جارتها والمساومة بحقوقها المائية، وتكمن الإشكالية المطروحة أيضاً في سياق الأزمة بين الجانبين، إلحاح مطالب إثيوبيا بالوساطة من كينيا وتركيا وقطر لإنهاء الخلاف الدبلوماسي مع الصومال، وفي الوقت نفسه، لا تلتزم بشروط التفاوض التي تطرحها مقديشو. ويصف الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، في خطاب له أمام البرلمان الصومالي هذا السلوك الإثيوبي بالمثل "ضربني وبكى سبقني واشتكى". فما جدوى مطالبها المتكرّرة لإنهاء النزاع الدبلوماسي المفتعل إثيوبياً، كما أن أديس أبابا لم تلتزم بعد بقرار الحكومة الصومالية إغلاق قنصلياتها في كل من جروي (عاصمة إقليم بونتلاند) وهرجيسا (عاصمة صوماليلاند)، ويعد انتهاكاً سافراً لسيادة الصومال، نتيجة ضعف الحكومة الصومالية إدارياً وعسكرياً في تنفيذ قراراتها مباشرة في هذه المناطق التي تتمتع باستقلال شبه ذاتي.
لا توجد آفاق واضحة لمستقبل أي تفاوض تقوده تركيا أو دول إقليمية لإنهاء التوتّر الدبلوماسي بين مقديشو وأديس أبابا، فالحكومة الصومالية صعّدت مواقفها وأغلقت السفارة الإثيوبية في مقديشو، واستدعت سفيرها في أديس أبابا مع اندلاع الأزمة الدبلوماسية. وربما تبادر في الفترة المقبلة إلى وقف التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني مع إثيوبيا، وهو ما يُفشل مساعي آبي أحمد وجهوده للتفاوض مع الحكومة الصومالية، ويسدّ أبواب التوصل إلى حلول وسط، لإنهاء هذه الأزمة التي افتعلها أبي أحمد، الذي تحوّل، في أعوام قليلة، من رمز للسلام والانفتاح السياسي في منطقة القرن الأفريقي إلى مثير للاضطرابات والمشكلات.
يدرك أبي أحمد صعوبة تحقيق الطموح الإثيوبي للوصول إلى البحر الأحمر عن طريق إقليم صومالي لاند في هذه المرحلة
بحكم العلاقات التركية المتينة مع الصومال وإثيوبيا، فإن إمكانية تحقيق اختراقٍ في جدار الأزمة الدبلوماسية بين الجارتين احتمال وارد، إذا تراجعت إثيوبيا عن طموحها التوسّعي نحو البحر الأحمر من خلال مذكّرة تفاهم مع إقليمٍ غير معترفٍ به دولياً، وتراجع سياساتها تجاه إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر لأغراض تجارية وليست عسكرية بالدرجة الأولى، والتنسيق مع مقديشو، وهو ما استنكرته صومالي لاند تجاه مساعي تركيا في ردم الهوة بين مقديشو وأديس أبابا، والانخراط في إنهاء الأزمة والاتفاق فيما بينهما، لإيجاد حلول ممكنة تحقّق أديس أبابا من خلالها طموحاتها الاقتصادية، ويحاجج فريق الوفد الإثيوبي الذي رجع بخفّي حنين من أنقرة أن الرئيس الصومالي السابق، محمد عبد الله فرماجو، أعطى ضوءاً أخضر لأديس أبابا إمكانية الاستثمار في أربعة موانئ صومالية على المحيط الهندي، إبّان زيارة أبي أحمد مقديشو عام 2018، لكن حيثيات (ونتائج) هذه التفاهمات بين أبي أحمد وفرماجو لم تخرج إلى العلن، إلا قبل أيام بعد أن كشفتها وسائل إعلام إثيوبية وصومالية، ما يعكس الطموح الإثيوبي منذ وصول أبي أحمد إلى الحكم عام 2018 لضمان موطئ قدم في البحر الأحمر، ويستخدم فريق التفاوض الإثيوبي مذكّرة التفاهم الأخيرة ورقة ضغط على الوفد الصومالي، ما يفشل جهود الوساطة التركية حاضراً ومستقبلاً.
تسابق حكومة أبي أحمد الزمن للتوصل إلى صيغةٍ ما لطي أزمتها الدبلوماسية مع مقديشو، سيما قبل الانتخابات الرئاسية في صومالي لاند المزمع إجراؤها في نوفمبر/ تشرين الأول المقبل، فإذا لم تنجح أديس أبابا في تحقيق تفاهمات مع الحكومة الصومالية، فإن مغامرة توقيع اتفاقية مع حكومة موسى بيحي، والاعتراف بصوماليلاند مقابل الوصول إلى البحر الأحمر سيناريو وارد، من أجل دعم حملة موسى بيحي الانتخابية برصيد وإنجاز سياسي لم يسبق له مثيل، برغم المخاطر والارتدادات الأمنية والسياسية والإقليمية والدولية الناجمة عن هذه المغامرة غير محسوبة العواقب محلياً وإقليمياً.
النخب السياسية في الصومال ترفض، جملة وتفصيلاً، فكرة دخول مباحثات مع إثيوبيا في قضيةٍ تمسّ سيادة الصومال ووحدة أراضيه
يدرك أبي أحمد صعوبة تحقيق الطموح الإثيوبي للوصول إلى البحر الأحمر عن طريق إقليم صومالي لاند في هذه المرحلة، ويشعر أيضاً بمدى التخبّط السياسي الذي يعيش فيه والضغط الدولي والأفريقي الذي سيواجهه إذا تحرّك نحو تحويل مذكرة التفاهم إلى اتفاقية رسمية مع صومالي لاند، ولهذا تهيمن سياسة المرواحة في الحلقة المفرغة، على التوجّه الخارجي الإثيوبي نحو حلّ هذه المعضلة، التي لا يمكن الانسحاب منها، خشية ارتداداتها وانعكاساتها على رصيده الشعبي الذي توّج بتحقيق طموح منفذ بحري صعب المنال، كما أنه لا يستطيع المضي نحو استئجار قاعدة بحرية في المياه الصومالية في البحر الأحمر، ما لم توافق عليه مقديشو، ما يفقده الشرعية الدولية في التموضع عسكرياً في هذه المنطقة الحسّاسة، ويشكل تحالفاً إقليمياً ضد إثيوبيا، سيما الصومال وجيبوتي وإريتريا، فضلاً عن السعودية ومصر والسودان، الرافضة لهذا التوجّه الإثيوبي، ما يخلط معادلة التوازنات في المنطقة ويفجر صراعات إقليمية مجدّداً.
القوة الناعمة التركية في القرن الأفريقي نقطة ارتكاز "عملية أنقرة" لرأب الصدع بين الجانبين، فلدى تركيا علاقات جيدة مع الصومال منذ 2011، وتشغل شركاتها أهم المرافق الحيوية في البلاد، ولديها أكبر مركز تدريب عسكري خارج تركيا، وتسهم في عملية إعادة بناء الجيش الصومالي. وفي المقابل، لديها استثمارات ضخمة في إثيوبيا تناهز ثلاثة مليارات دولار أمريكي، وتشغل شركاتها (70 شركة) نحو 20 ألف إثيوبي، ما يعني أن تأثير الوساطة التركية قابل للتنفيذ، وأنه قد ينهي التوترات الإقليمية، وتبقى نقطة الخلاف الجوهرية في انعدام هامش المرونة وملكة التنازل بين الجانبين، كما أن الأسئلة المفتاحية لأي تفاوض حاضرة وبقوة: هل تسحب أديس أبابا مذكّرة التفاهم الموقعة مع صومالي لاند؟ وهل تقبل مقديشو الانخراط في التفاوض بحقوقها المائية مع أديس أبابا؟ يمكن وصف التوتر بين الدولتين بمنزلة جبلين جليديين متقابلين تفصلهما حواجز جليدية كثيرة، وعوامل انصهار جليد التوتر بين مقديشو وأديس أبابا لم تتوفر بعد.