عودة السؤال مع رحيل ميشيل كيلو
مع كل موت لشخصية عامة أو مؤثرة في الراهن السوري، تسترجع الذاكرة لحظة مشابهة، وما رافقها من سجال في الشارع، وكأن الزمن لا يتحرّك، والطاقة الكامنة فيه تتقد وتتفجّر من جديد أقوى من السابق. تذكّرني وفاة الكاتب والسياسي السوري المعارض، ميشيل كيلو، بلحظات مشابهة، وتعيدني إلى ما كتبتُ مرة، بعد رحيل المفكر السوري صادق جلال العظم، في مقالتي المعنونة "ليس رثاء لصادق جلال العظم"، من على هذا المنبر (العربي الجديد)، والتي كانت في الواقع رثاءً له، "لا أجيد الرثاء، ولا أعرف أن أحزن إلا بمفردي، فحزن الفقد أمر شخصي كما أفهمه، بل ذاتيّ متطرّف في ذاتيّته، المشاعر التي يتركها فرد رحل تولّدها الفجوة التي تزداد عمقاً واتساعاً مع الزمن، فجوة المكان الشاغر الذي كان مليئاً بالحياة مفتوحاً على احتمال المزيد، عصياً على الاكتفاء، لكن صادق جلال العظم لم يكن إنساناً ذاتياً بالنسبة إليّ، فأنا بالكاد صافحته مرةً قبل أكثر من ثمانية أعوام (حين كتبت المقالة) مصادفة في دمشق عندما كنت بصحبة الراحلة إلهام زوجة ممدوح عدوان". كذلك فإنني بالكاد التقيت بميشيل كيلو مرتين منذ مدة طويلة في إحدى السهرات في مدينتي اللاذقية، لكنني أكنّ لشقيقه، زميلي في المهنة الدكتور (الطبيب) عيسى كيلو، كل الود والتقدير، ما يفتح باباً على حزن شخصي أيضاً. لكن، هل يمكن أن يمرّ رحيل شخصياتٍ انشغلت بالقضايا العامة، وساهمت في طرح الأفكار الفاعلة في إنارة الوعي العام، من دون حزنٍ كبير، ووقوفٍ في لحظات تمعّن وتأمّل وتفكّر في الحالة السورية، وفي تجارب تلك الشخصيات؟
لقد دارت السجالات الحامية بين شريحة كبيرة من السوريين على صفحات التواصل الاجتماعي، وكما هي العادة أداروا حروبهم العارمة بكل ما أوتوا من قدرة وعزم على المحاسبة، وأن يكون بعضهم ديّاناً تجاه بعض، على مذبح الوطنية والإخلاص والتفاني في مواجهة المؤامرة التي يتعرّض لها وطنهم، وكل طرفٍ يبيح لنفسه امتلاك الحق الحصري بالوطن والوطنية ومجازاة الآخر ومحاسبته بأقصى ما يستطيع، باعتباره أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه، وهنا القضية.
هل بات للنخبة دورها الفاعل وتأثيرها في الرأي العام، بعد أن تبين مدى فشلها في تكوين وعي عام في العقود الماضية؟
الموت حقّ وحقيقة. هذا بديهي، مع أن الموت في سورية اتخذ سياقات أخرى. ولموت ميشيل كيلو الذي أمضى أكثر من نصف عمره في النضال، وفي المعتقلات فترات عديدة، بجائحة كورونا، وقع مغاير، لكن ما لا يموت هو الفكرة، فكيف بفكرٍ ترك قواعده ومبادئه وأهدافه بين أيدي من هم بحاجة إليه، وشكّل بالنسبة إلى الأجيال القادمة قاعدة بياناتٍ لاستلهام تجاربهم في بناء أوطانهم بحسب ما يطمحون، فيما لو قيّض لهذه الأجيال أن تعود إلى القراءة.
في رسالته التي وجهها الراحل عبر "العربي الجديد" إلى السوريين والسوريات، واعتبرت بمثابة وصيّته، كان فيها ما يشبه اعترافاً بأخطاء ارتكبت والاعتذار عنها، وهذا أمرٌ يُحسب له. ولا بدّ من الاعتراف بأن الخطأ مفهوم علمي، فمن يعمل في أي مجال يخطئ، فكيف في مجال السياسة، المتعلقة بالشأن السوري الذي ما زال العالم مختلفاً حوله؟ أمّا الحجة الدامغة بالنسبة إلى جمهور من يتمسّكون بنظرية المؤامرة، فكانت في التسجيل الصوتي الذي يعرّف فيه ميشيل كيلو عن نفسه ببطاقته الشخصية ويشيد بجبهة النصرة، وهذا ما شكّل البرهان الأخير في نظرهم على مسؤوليته عن تمزيق الوطن، بالحرف هذا ما قاله بعضهم. بالنسبة إلى الجمهور في اتساعه هذا، ما كان من تفاعله مع موت ميشيل كيلو كما سبقه من موت صادق جلال العظم أو الطيب تيزيني أو مي سكاف أو فدوى سليمان وغيرهم من الشخصيات العامة المؤثرة التي كان انحيازها واضحاً وقويّاً إلى الحراك الشعبي منذ البداية.
شبه إجماع على مستوى النخب السورية، الثقافية والعلمية والمجتمعية موزعة بين الداخل في كل مناطق نفوذه والخارج، على نعي ميشيل كيلو
في المقابل، كان هناك شبه إجماع على مستوى النخب، الثقافية والعلمية والمجتمعية موزعة بين الداخل في كل مناطق نفوذه والخارج، على نعيه والحزن عليه، وإنصافه بوصفه شخصيةً وطنيةً، كان همّها العمل من أجل الشعب وقضاياه المحقة. لكن، هل يكفي هذا أمام الواقع الرهيب الذي وصلت إليه سورية ووصل إليها السوريون؟ هل بات للنخبة دورها الفاعل وتأثيرها في الرأي العام، بعد أن تبين مدى فشلها في تكوين وعي عام في العقود الماضية. يعود السؤال حارقاً صارخاً بعد سنوات عشر من الدمار والانهيار والتشريد: لماذا فشلت الثورة؟ بل هل هي ثورة من الأساس؟ لقد تكشّف الواقع باكراً في عمر الحراك عن فجوة عميقة واسعة بين النخب والقاعدة الشعبية، النخب التي لم تستطع أن تُحدِث التغيير المرجو في وعي الشعب، على الرغم من تضحياتها والأثمان الباهظة التي دفعتها في مقارعة الطغيان. ولكن أمام لحظة الحقيقة تبين أن الفواتير كلها راحت أدراج الرياح، وأن النسيج المجتمعي بدا متهتكاً ضعيفاً غير مسلّح بالوعي اللازم من أجل تحديد أهدافه وقضاياه. عقود من القمع والاستبداد أفرغت الحياة الفكرية، وشلت الحياة السياسية، وزجّت العامّة في حالة من الخواء الروحي والمفاهيمي، في وقتٍ كانت الجماعات الدينية هي الأكثر تنظيماً والأوسع كوادر والأقدر على الولوج في عمق الروح الجماعية "التي كانت تمتلئ بالخواء"، فارتمت الشرائح الفقيرة والمهمّشة التي راحت تزداد نمواً واتساعاً في أحضان تلك الجماعة. لذلك استطاعت الجماعات الإسلامية السيطرة باكراً على الحراك، وخطفه لمصلحتها.
لم تستطع الأحزاب والتيارات اليسارية في سورية تشكيل قاعدة اجتماعية، وتعزيز وعي شعبي بأهم المرتكزات التي تبنى عليها الدول الحديثة القائمة على مبادئ الديموقراطية والحقوق والعدالة الاجتماعية والحريات وعدم التمييز وانفصال الدين عن المجال العام والسياسة. وبالتالي، كان الخوف باكراً لدى قسم كبير من الشعب من التغيير، ومن الخطاب الإقصائي الذي علا باكراً أيضاً من الجماعات الإسلامية المتشدّدة، كجبهة النصرة التي حيّاها الراحل ميشيل كيلو حينها، وكانت تلك من أخطاء وقعت فيها قوى الثورة. وهنا تحضر قرينة في البال، عندما خاطب الراحل صادق جلال العظم النخب المثقفة من القوميين العرب، والناصريين، ويساريي تلك الفترة، ما بعد هزيمة حزيران، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين. "إن كنتم تعتبرون أنفسكم ثائرين، فعلى ماذا أنتم ثائرون؟ على الاستعمار فقط؟"، ألا يمكن استمرار هذا النهج، وتوجيه السؤال إلى نخب اليوم الثورية: على ماذا ثرتم؟ على إسقاط النظام السياسي فقط؟ والطغيان الذي صادر الثورة، وصادر المجال العام بأجمعه؟ وخطابات الفصائل والأطراف التي تهيمن على جزء من الأراضي السورية، وتفرض سطوتها ونهجها على الشعب تحت نفوذها بالأسلوب نفسه، وبالنهج السلطوي الشمولي القمعي نفسه؟
الصبر الجميل للشعب السوري الذي احتمل أكثر من طاقته بكثير. الصبر الجميل له حتى يستعيد عافيته الروحية قليلاً
إذا كان الهدف من انتفاضة الشعب إسقاط النظام فقط، فتلك مصيبة، بعد أن سقط الوطن، وتقسّمت الأرض، وارتهن القرار والإرادة للخارج، وجرى القتل والتهجير والتشريد والتجويع. مصيبة ألّا يكون هناك بدائل لدى الشعب، أن ينتظر الشعب ديكتاتورياتٍ وطغياناً أعتى، عندما افتقد الشعب إلى البدائل التي تُرضي طموحه، ورأى أن البديل المطروح عن النظام طغيانٌ آخر يرمي إلى فرض شريعته بالكامل على الشعب. انزاح قسم كبير منه إلى كفة النظام. هذه حقيقة ومؤشّر على فشل ذريع، وها هي الانتخابات قادمة، على الرغم من مهزلة التنافس وتعدّد أسماء المرشحين، إلّا أن ما يمكن استنباطه، في استقراء أولي، يفيد بأن لا شيء تغيّر، وأن استبدال كلمة انتخاب بكلمة استفتاء في الدستور عملية خلّبية ليس أكثر.
بعيداً عن الحل السياسي الذي لم يعد بيد السوريين، وإذا لم يكن هناك إرادة دولية واتفاق دولي وإقليمي على الحل، فلن يكون في المستقبل القريب. لكن هل من المعقول الانتظار إلى حينها؟ الاشتغال على الوعي الجمعي، وتعريف الناس بقضاياهم الراهنة، وطرح تصور عن مستقبلهم أمر ضروري، لأن البناء والاستمرار مرهونان بالفترة التالية، فترة ما بعد فرض الحلول السياسية. الشعب بحاجة إلى استراتيجية وخطط من أجل حياة مستدامة، وهذا لا يصحّ من دون وعي جديد وسليم.
السلام لروح السوري ميشيل كيلو، والصبر الجميل لهذا الشعب الذي احتمل أكثر من طاقته بكثير. الصبر الجميل له حتى يستعيد عافيته الروحية قليلاً، ويبدأ بالتفكير المجدي النافع بواقعه واستنقاعه، وكيف السبيل للخروج من لجّته الحارقة. والدعوة إلى النخب بأن تعيد حساباتها وقراءة تجاربها، علّها تتمكّن من إحداث المفارقة اللازمة، وتستطيع رمي الحبل إلى الشعب لانتشاله من حمأته، كي يسمو بعضه على التخوين المجاني بحق بعضه.