عودة الاستبداد إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء
تعيش الدول الأفريقية جنوب الصحراء على إيقاع تراجع ديمقراطياتها الهشّة أمام العودة المطردة للأنظمة الاستبدادية التي طبعت حكم هذه الدول منذ حصولها على استقلال شكلي، بما أن أغلبها ظلّ تابعا سياسيا واقتصاديا للقوى الاستعمارية القديمة. ومنذ ما عرف بربيع الديمقراطيات الأفريقية في تسعينات القرن الماضي، وكان انعكاسا لسياق دولي عام، انتعشت فيه موجة الديمقراطية الليبرالية بعد سقوط جدار برلين، فإن ما تشهده القارّة السمراء، جنوب الصحراء الكبرى، هو انعكاس للمناخ السائد اليوم في العالم، والمتمثل في التراجع الديمقراطي وعودة الاستبداد، بكل أشكاله الديكتاتورية والسلطوية والشعبوية، على الساحة الدولية.
ومن يتأمل الخريطة السياسية الحالية لأفريقيا جنوب الصحراء يلاحظ استمرار وجود أنظمة ديكتاتورية معمّرة، كما في غينيا الاستوائية والكاميرون وأوغندا والكونغو برازافيل وغينيا الاستوائية، أو أنظمة عائلية وراثية شبه ملكية، مثل الغابون وتشاد، أو أنظمة عسكرية كما هو الوضع في مالي والسودان وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري، أو أنظمة سلطوية مدنية كما حال جنوب السودان وإريتريا، وحتى الدول التي ما زالت تُنظّم فيها انتخابات شكلية، إلا أنها لا تؤدّي إلى أي تناوب على السلطة، وإنما إلى إعادة تركيزها في أيدي القائد أو الحزب الحاكم أو كليهما، كما هو الوضع في تنزانيا وساحل العاج والكونغو الديمقراطية وبينين وتنزانيا. أما الدول التي نجحت في مقاومة الاستبداد السياسي، وتحقيق ديمقراطياتٍ تقوم على التناوب السلمي للسلطة، كما هو الحال في نيجيريا وكينيا وإثيوبيا وغانا والسنغال، فديمقراطياتها ما زالت هشّة ومعرّضة لكل الهزّات التي قد تعصف بها. وأغلب هذه الدول ينهشها الفساد الذي طاول النخب الحاكمة، والنموذج المستقرّ للتداول الديمقراطي على السلطة أطول فترة، والذي كان يُضرب به المثل في السنغال أصبح هو الآخر معرّضا للنقد ومهدّدا بالانهيار والعودة إلى معسكر الأنظمة السلطوية. أما بلاد مثل جنوب أفريقيا التي وصل فيها حزب الزعيم الأفريقي، نيلسون مانديلا، إلى السلطة عن طريق انتخابات ديمقراطية، منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، فأصبح حكمُه عنوانا للفساد والفشل والفوضى الاجتماعية وفقدان الأمل عند الفئات الأكثر شبابا.
ما تشهده القارّة السمراء، جنوب الصحراء الكبرى، هو انعكاس للمناخ السائد اليوم في العالم، والمتمثل في التراجع الديمقراطي وعودة الاستبداد
ما تشهده أغلب دول هذه المنطقة منذ 2020 هو تنامي النزعة الاستبدادية المتمثلة في الانقلابات العسكرية، كما حصل في السودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا، أو انقلابات دستورية، ترفع كل ما يحدّ من عدد فترات ولاية الرئيس أو سنّه، وتمهد لعودة ممارسات سلطوية بائدة أو ترسيخها، كما جرى في عدة دول منذ تسعينات القرن الماضي في توغو وجيبوتي والكونغو برازافيل ورواندا وبوروندي وزامبيا. ومقابل تمدّد الاستبداد أو عودة الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، يرتفع منسوب القمع السياسي، ويزداد تفقير المجتمعات والشعوب ومحاصرة آخر الهوامش المتبقّية للمعارضة في الإعلام والفضاء العام، والنتيجة تفشّي الفساد بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية، من خلال غياب المحاسبة والشفافية وسيادة المحسوبية والزبونية.
وحسب تقرير صدر عام 2020 عن المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية، ومقرّه استوكهولم، تشهد أفريقيا زيادة في عدد الأنظمة الاستبدادية لأول مرة منذ عشر سنوات. وبالفعل، كشفت التجارب الديمقراطية في عدة دول أفريقية خلال العقود الثلاثة الماضية عن أوجه عديدة من القصور في الممارسة الديمقراطية، ولم تنجح في تعزيز ثقافة ديمقراطية لدى شعوب الدول التي عرفت تلك التجارب، إلى درجة يصعب معها اليوم وجود نموذج ديمقراطي ناجح في القارّة السمراء، والاستثناء الوحيد هو الموجود في جزر السيشيل، رغم استمرار تفشّي الفساد الحكومي وعدم احترام حقوق المهاجرين في هذا الأرخبيل.
تبدو الآمال التي انتعشت في الربيع الديمقراطي الأفريقي في التسعينات مخيبة
لذلك تبدو الآمال التي انتعشت في فترة الربيع الديمقراطي الأفريقي في تسعينات القرن الماضي مخيبة للآمال إلى حد كبير، في ضوء تراجعات كبيرة تشهدها اليوم أكثر من دولة أفريقية جنوب الصحراء، فثلاثون سنة من التجارب الديمقراطية لا تبدو هزيلة للغاية فقط، وإنما أيضا تدفع إلى التساؤل: لماذا ترفض أفريقيا السوداء الديمقراطية؟ ولماذا تقبل شعوب هذه الدول عودة الدكتاتوريات والأنظمة العسكرية التي سبق لأغلبها أن جرّبت حكمها الفاشل والمدمّر للبلاد والعباد؟ وإلى متى سيغيب الحلم الديمقراطي عن هذه الدول؟ أسئلة على الشعوب الأفريقية ونخبها الوطنية المثقفة أن تجيب عنها، لأن كل محاولات تصدير الديمقراطية إلى أفريقيا، منذ تسعينات القرن الماضي، اتّضح أنها كانت مجرّد وهم كبير لا يختلف عن خدعة مهمّة حضارة الشعوب البدائية التي رفعها الاستعمار لاحتلال دول ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها.
طبعا، دول شمال الصحراء الكبرى، من مصر حتى المغرب مرورا بليبيا وتونس والمغرب وموريتانيا، ليست أحسن حالا من شقيقاتها الواقعة جنوبا، وذلك منذ نجاح الثورات المضادّة داخل هذه الدول في الانقلاب أو الالتفاف على ثورات شعوبها إبّان فترة الربيع العربي قبل أكثر من عقد، فمصير القارّة السمراء أن تظل مرتعا للاستبداد والفساد، ما يهدّد شعوبها بمزيد من التفقير والتهجير وبلدانها بمزيدٍ من التدمير والخراب. ويبقى مستقبل دول القارّة السمراء من شمالها إلى جنوبها بيد شعوبها، عندما تصبح واعية بمدى أهمية تقرير مصيرها بنفسها، وأخذ زمام أمورها بيدها، وهذا أملٌ ما زال بعيد المنال.